Close

Istefada

تحميل كتاِب الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية pdf رابط مباشر

 


تنزيل وتحميل كتاِب الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية pdf برابط مباشر مجاناً

وصف الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية pdf

 

عبـــــــدالله خلـــــــيفة
‏‏‏‏‏‏كاتب وروائي
قصة كتاب
كان البحث في تاريخ التطور الفكري والاجتماعي العربي يراودني منذ فترةٍ مبكرة ، حيث نشأنا على خلاءٍ من البحث في الجذور الكبرى للتاريخ سواءً في المنطقة الجزيرية الخليجية أم في العالم العربي – الإسلامي عموماً ، فكانت قراءتنا المبكرة للمصادر الماركسية توجهنا للسؤال عن موقع بلداننا من هذه الكتابات ، وكانت الإشارات في المصادر هذه تجلعنا نحاول الحفر فيها علنا نلقى إجابات حول تشكل الإسلام وظهور الأمة العربية والأمم الإسلامية الأخرى لكن بدون الحصول على تلك الإجابات .
مثل كلام أنجلز في رسائله إلى كارل ماركس كان ينبه لعوامل استثنائية في ظهور الإسلام كمسألة دور الري في تشكل الإمبراطوريات في الشرق واختلاف ذلك عن التطور في الغرب.
كما لاحظنا بعد ذلك توجه بعض الباحثين العرب إلى الحفر في هذا التاريخ السياسي والاجتماعي ، وفي سنوات الدراسة والتحاقي بمعهد المعلمين والتخصص في اللغة العربية والدين ، صار من متابعاتي المستمرة قراءة الأبحاث العربية حول تاريخ الإسلام ، خاصة لدى أحمد أمين في موسوعته حول التاريخ الإسلامي وطه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى) وغيرهما .
وفي تلك الفترة قبل اعتقال سنة 1975 كانت مجلة الطريق تنشر دراسات مجزأة للأستاذ حسين مروة ، قرأت منها دراسته حول المعتزلة ، وفي سنوات السجن عزت المصادرُ ، لكن في السنة الأخيرة 79 – 80 ، لاعتقال مجموعة حل البرلمان ، سُمح لنا بالكتب فكان كتاب جواد علي (المفصل في تاريخ الإسلام) من عشرة أجزاء ، و كتاب (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) الذي أنجزه مروة خلال تلك السنوات ، من أثمن الكتب التي وصلتنا بتوصية مخصوصة . وغيرها من الكتب التي تتناول التراث والأدب بصفة خاصة.
لكن ظلت مثل هذه القراءة غير وافية ، كما أنها لا تجثم في بؤرةِ الاهتمام بالنسبة لي ، كما أن أسئلةَ الواقع والعصر لم تطرحْ نفسها بحدةٍ علينا ، فلم يزل المعسكر (الاشتراكي) موجوداً ، وكان تصورنا حول (الماركسية – اللينينية) لم يزل مدرسياً شعارياً ، استيرادياً، وحين حدثت التغيراتُ الكبرى فيما بعد أصبحت هذه المسائل تنتقل إلى بؤرة الوعي.
وخارج السجن الذي انتقلنا إليه كانت المصادر أكثر ، فتتابعت عمليةُ البحث في الجذور ، وقد بدأتُ ذلك بشكل قصصي ، بمحاولة كتابة رواية عن العهد الراشدي والفتوحات ، وذلك قبل عشر سنوات من الآن ، فرحتُ أستجمع أفكاري عن المرحلة الإسلامية ، لكن الرواية كانت تحتاج إلى معلومات ملموسة وليس فقط أبحاثاً عامة ، فقلتُ يجب أن أكتب تصوراتي عن ظهور الإسلام وأوضاعِ العرب وكيفيةِ نشوء الفتوح ، فرحت أكتبُ مقالات عن ذلك في جريدة أخبار الخليج ، في الملحق الثقافي وكانت أول مقالة بعنوان (قريش تؤسس وحدة العرب) ، وهكذا كان في كل أسبوع أنشر مقالةً تواصل الحلقة السابقة ، وراح الهدف يتغير من كتابة رواية إلى كتابة تاريخ تطور الوعي العربي دينياً وفلسفياً ، وكذلك فإن بحث الدين كان يقودُ إلى بحثِ كيفية نشوء الفرق ، وأسباب ذلك ، والفرق السياسية تقود إلى تشكل الفرق الفكرية ، فيتشعب البحث وينمو .
لكن هذه الكتابة الأولية الُمبسطة ، كانت تتعرض باستمرار للتبدل والتوجه إلى جذور الموضوعات ، حيث أن عرض الأحداث لا يكفي فلا بد من معرفة أسبابها الكامنة العميقة، وهذا يقودُ إلى دراسة البُنى الاجتماعية ، وما يسمى ماركسياً بالتشكيلات التاريخية.
قام كتاب المفكر التقدمي حسين مروة في كتابه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) على البحث عن البذور المادية في الفلسفة العربية الدينية عموماً . والبحثُ عن البذور (المادية) يعني فكرياً البحث عن العناصر الموضوعية والعلمية في الوعي السائد ، والتي غالباً ما ينتجها مفكرون يعبرون عن القوى الشعبية ، فهم يكشفون داخل الفلسفة عناصر مضادة للتفكير المثالي الذي يجعل جذور الوعي موجودة في الغيب ، أو في المطلق.
لكن مثل هذه العناصر تغدو استثنائية لأن الفلسفات العربية – الإسلامية كانت فلسفات دينية عموماً ، والوعي الديني لا يسمح باتساع الفكر المادي داخله ، فهو يفسر ظهور الدين مثلاً بعوامل غير اجتماعية وغير واقعية .
لهذا فإن البحثَ في وجود الوعي المادي داخل فلسفات دينية عموماً يؤدي إلى عدم كشف الطابع المثالي السائد في هذه الفلسفات ، ومن هنا أردت استكمال مشروع حسين مروة وغيره من الباحثين التقدميين في جوانب أخرى ، هي جوانب الفكر المثالي المسيطر ، ولماذا هو مسيطر .
إن الاهتمام بالفكر المادي في العصر الإسلامي التأسيسي يوجه البحث إلى تضخيم العناصر المادية والثورية ، وهذا التضخيم ينعكس على الحركات السياسية الاجتماعية في ذلك الوقت ، وبالتالي يجري إعطائها صفات ليست فيها ، والمبالغة في اقترابها من الفكر المادي الجدلي الحديث .
فمثلاً يجري تصوير المعتزلة بأنهم قريبون من الفكر العقلاني وأن لديهم عناصر فكرية مادية كبيرة ، وأن بعض الفلاسفة كانوا مضادين للدين بشكل متوارٍ ، وهذه العملية تقود إلى تفسير أي توجه فكري مثالي لديهم بأنه قناع وأن الفيلسوف بسبب الاضطهاد والقمع يحمل فكراً مادياً متوارياً .
هذه المبالغات في رأيي هي بسبب العقلية السياسية السائدة في سنوات الستينيات والسبعينيات حيث الاعتقاد بالانتصار الوشيك للاشتراكية على الرأسمالية وأن التراث الإسلامي يحملُ الكثيرَ من الاقتراب من هذا الفكر المادي وأن الحركات السياسية في الماضي هي حركات قريبة للحركات التقدمية العربية المعاصرة.
ومع تصدع هذه الأفكار ، وظهور الواقع أكثر ارتباطاً بالدين وفي اتجاهاته المحافظة ، وابتعاد النموذج الاشتراكي ، أخذت نظرتنا للواقع وللتراث في التغير .
ومن هنا كان العنوان (الاتجاهات المثالية) أي هو البحث في السائد ، فما هي الجوانب المثالية المسيطرة في الفلسفة العربية ، ولماذا هيمنت هذه العناصر على الوعي ؟
والبحث في سيطرة (المثالية) يقود إلى بحث تشكل الأديان في المنطقة وعلى أية أرضية تشكلت هذه الأديان ، حيث قامت أنظمةُ العبودية العامة في الحضارات القديمة في الشمال الزراعي العربي خاصة وهي: الرافدية والمصرية والكنعانية وغيرها ، بخلقِ هيمنة الفكر الديني الواحد ، المتداخل مع هيمنة الدولة ، والتي يجري تغييرها عبر فكر ديني مضاد ، والذي يصبحُ منتجاً لدولة مستبدة بعد حين ، وهكذا دواليك .
أي كان لا بد من أخذِ العناصر الإنتاجية والجغرافية والتاريخية المتداخلة المركبة التي شكلت الإسلام ، وفكره في سيرورة صراعية خاصة به .
ولهذا توجهتُ للبحثِ عن الجذور السياسية والدينية عند القدماء ، ورحتُ أبحث العناصر المشتركة في مثل هذه الثقافة ، حتى ظهور الإسلام ، وما هي العناصر الخاصة التي أحدثها.
في الأديان ثمة عناصر تمثل القوى المسيطرة وعناصر تمثل القوى المعارضة ، لكنها كلها تتشكل في مناخ مثالي ، أي يعيد سببيات التطور إلى عناصر غيبية في نهاية المطاف ، وإعادة هذه العناصر للغيب ، تعني إعادتها للقوى العليا المسيطرة ، وهذا ما فعلته كذلك الفلسفات العربية الإسلامية ، حيث قامت على الدين ، ولكنها بدلاً من تفسير الكون والحياة بعناصر غيبيةٍ دينية كفكرةِ الإله فإنها تفسرُ الكونَ إضافةً لذلك بفكرة العقول الكونية التي تخلق الطبيعة ، وبشكل متدرج ، لكنها تقوم بإعطاء هذه الطبيعة المادية سببياتها بعد أن تكون نتاج صورة الإله التي تتصورها .
ولهذا فإن الحركات الفكرية الإسلامية توجهت للبحث عن عناصر معينة لفهم الواقع والطبيعة مركزةً على فكرة الإله ومنتجة صوراً كثيرة حول ذلك ، ومقيمة كل فلسفاتها على صور الإله التي تنتجها .
هذه فكرةٌ مبسطة جداً حول نشأة الدين والفلسفة في الواقع العربي ، والجزآن الصادران بين أيديكم في مجلد واحد ، يبحثان الخطوط الاجتماعية والفكرية الممهدة لظهور الفكر الفلسفي، منذ نشأة الحضارات القديمة بجوهرها السياسي – الاجتماعي ، حتى الخصوصيات في التكون العربي الإسلامي ، وظهور الإسلام والصراعات الاجتماعية التي عاشها.
إن فصول الجزء الأول تدور في : تطور الوعي الديني في المشرق القديم – قريش تؤسس وحدة العرب – الثورة المحمدية – عهد الخلفاء الراشدين – الملك والإمام – القصة في القرآن – الفرق المعارضة الكبرى الخ كما يبحث هذا الجزء آثار الفتوح وتمازج العرب بالأمم الأخرى ، وتداخل الأديان ، ثم دراسة طبيعة التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية ، وهذه قضية محورية لفهم مقولة النظام الإقطاعي وتطوراته .
فمن المهم دراسة البنية الاجتماعية بمستوياتها كما تشكلت في مناخ الجزيرة العربية البدوية، وكذلك انتقال هذا الموروث إلى البلدان المفتوحة وقراءة التمازج الذي حدث بين الفكر الإسلامي الطالع من الجزيرة والفكر الديني القديم الراسخ في الشمال ، لأن هذا سيضع بصرنا على الأرضية الموضوعية لتشكل الوعي بمختلف تجلياته .
في حين يبحث الجزء الثاني ما بعد تشكل النظام الإقطاعي الديني ، عبر فصول مثل : الثورة العباسية ، التطور الاقتصادي للعصر العباسي الأول ، طبيعة تكون الإمبراطورية العربية ، صعود الثقافة العربية الإسلامية ، نماذج من مثقفي العصر البارزين كابن المقفع والجاحظ . ثم كيفية ظهور الفلسفة العربية الإسلامية وأول نموذج لها وهو الكندي .
إن الغرض من هذا المسح الشامل هو الوصول إلى طبيعة النظام الاجتماعي الذي أقامه المسلمون وكيفية تشكل الصراعات الاجتماعية والفكرية ، والإمكانيات الموضوعية التي يخلقها لظهور الفلسفة .
فقد حدث خلافٌ فكري كبير حول طبيعة التشكيلة التي أقامها العرب المسلمون و هل هي عبودية أم إقطاعية أم آسيوية ، وقد كانت الفصول السابقة هي تحديد وذلك ، وهذا ما جعلني اكتشف جوانبَ جديدةً حول علاقات الدين والفلسفة ، فأركز على طبيعة النظام الإقطاعي المذهبي ، المستمر حتى الوقت الراهن ، وكيف يُلحق الفئات الوسطى بسيطرته ويمنعها من تشكيل نظام رأسمالي حر .
ولأن المثقفين – المنتجين للوعي الفقهي والثقافي والفكري والفلسفي – هم نتاج هذه الفئات ، فقد كانوا نتاج التمرد على هذا النظام وعلى محاولة تغييره أو الالتحاق بسيطرته.
ومن هنا فالمعتزلة الذين كانوا متمردين على ظهور ونشأة هذا النظام في العصر الأموي حاولوا تشكيل عناصر عقلية دينية مثالية في زمن آخر ، ولكن لأن جزءً هاماً منهم التحق بسيطرة الطبقة الإقطاعية الحاكمة ، فإن العناصر التمردية والعقلية تآكلت ولم تستطع المعتزلة فتح طريق عقلاني واسع للوعي العربي الديمقراطي .
ولهذا أقوم بتقسيم تطور الوعي الاعتزالي عبر مراحل نمو البنية الاجتماعية ، ففي المرحلة مع واصل بن عطاء كان الفكر المعتزلي بشكل ثم تبدل في مرحلة أثناء النظام والجاحظ وغيرهما من قادة الاعتزال ، ثم جاءت مرحلة ثالثة مع فشل المعتزلة من الخروج من هيمنة صورة الإله المباشرة والشاملة على الطبيعة والمجتمع رغم طرحهم بعض السببيات في تفسير الظواهر، وهذا الفشل صعّد جماعةً مضادة هي الأشعرية عكست رؤى الطبقة المسيطرة في مرحلة مختلفة هي مرحلة سيطرة الإقطاع وإضعاف الفئات الوسطى بشكل كبير .
وقد قام الفلاسفة بمحاولة استكمال مشروع المعتزلة على صعيد أكثر تطوراً وأحفل بالتناقضات الفكرية كذلك ، فهم لم يعتمدوا على عناصر فقهية ودينية بالدرجة الأولى بل على عناصر فلسفية ، أي بالاعتماد على المقولات الأرسطية . لكن فلسفة الفارابي كمثال تقول في خاتمة المطاف إن على الوعي أن يتوجه للاتحاد بالذات الإلهية كأرقى شكل من التجلي الفكري وأن ينسحب من المجتمع المادي (الوضيع). وعملية الزهد ثم التصوف ثم فلسفة التصوف ستلعب كلها دوراً من الهدم للنظام دون أن تستطيع تغييره إلى الأمام ، وهذا سوف يقوي التيارات الفقهية الدينية وسيطرتها على الجمهور بدلاً من الفلسفة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر عبـــــــدالله خلــــــــيفة: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ،صدر الجزء الأول والثاني معاً بمجلد واحد ، في ستمائة صفحة، ويعرضُ فيه المقدمات الفكرية والاجتماعية لظهور الإسلام والفلسفة العربية 2005. الجزء الثالث ، وهو يتناول تشكل الفلسفة العربية عند أبرز ممثليها من الفارابي حتى ابن رشد 2005. الجزء الرابع ، تطور الفكر العربي الحديث , وهو يتناول تكون الفلسفة العربية الحديثة في مصر خاصة والبلدان العربية عامة، منذ الإمام محمد عبده وبقية النهضويين والمجددين ووقوفاً عند زكي نجيب محمود ويوسف كرم وغيرهما من منتجي الخطابات الفلسفية العربية المعاصرة ، 2015.
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
في مؤلفه الموسوعي «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» يرى الباحث والروائي البحريني عبـــــــدالله خلــــــــيفة أن الوعي العربي قد مر بمراحل بالغة الدقة أسهمت بشكل فاعل في تشكيله بدءا من المرحلة الجاهلية، ثم ظهور الإسلام -يحلو للكاتب تسميتها بالثورة المحمدية- مرورا بعوامل تشكيل دولة الإسلام الأولى، وصولا إلى قيام دولة بني أمية على الأسس الرجعية التي كان الإسلام بمبادئه وغاياته أبعد ما يكون عنها، إلى نهاية الدولة الأموية وثورة العباسيين حسب تعبيره.
ويرى خليفة، أن الوعي العربي بدأ وثنيا ثم ما لبث أن انقلب توحيديا؛ كاستجابة للظرف التاريخي، وكمنتج أصيل لبنيته الاجتماعية الخاصة؛ مستفيدا من جملة أفكار كانت سائدة في المجتمع العراقي الجنوبي القديم، وتطورات الوعي الديني في مصر الفرعونية، مع الوضع في الحسبان طبيعة النظم الاجتماعية السائدة آنذاك ودورها في التطور التاريخي.
ويتوقف خليفة كثيرا عند طبيعة الوعي العربي الذي سيتحول لاحقا إلى الوعي الإسلامي، ونموه داخل البنية الاجتماعية مع استدعاء تلك العناصر القديمة الناتجة عن علاقته المباشرة بالمؤثرات الفكرية الخارجية التي اكتسبت إطارها من خلال الأديان: الوثنية واليهودية والمسيحية، ليثبت أن الوعي ليس مجرد اتجاهات فكرية وسياسية جامدة، بل هو تفاعل حي لعلاقات اجتماعية وثقافية واقتصادية لا يمكن تجاهلها .
يذهب خليفة إلى أن الإسلام الذي خرج من بيئة رعوية وفي مجتمع ظلت طبقاته مرتبطة بجذور عميقة، إلا أنه أنجز التحول الحضاري الذي تجاوز به مرحلة الرعوية وصولا إلى المجتمع المتمدن الذي خطط له سلفا.
اتخذت مكة قاعدة حضارية لهؤلاء الرعاة -لم يكونوا رعاة فقط ولكنهم كانوا جميعا نتاج مجتمع رعوي- وتشكلت بين قيادتهم الطليعية والسواد الأعظم منهم علاقات معقدة ستسفر فيما بعد عن مواجهات، ففي العهد الراشدي اعتمدت الدولة توجها يتمثل في امتلاكها للأراضي مما استتبعه ظهور نمط جديد في الإنتاج والتوزيع، “الأمر الذي أفضى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية، ومع ترسخ هذه البنية واستعادة الهياكل الاقتصادية العائدة إلى العصر القديم، تبدأ اجتماعات سياسية عميقة في هذه البنية، تفضي إلى النظام السياسي الأموي”.
ومن خلال دراسة وافية لبنية النظام في الدولة الأموية وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها، يرصد خليفة الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي انتقالا من البداوة إلى الحضارة.
وفي سياق تلمس مراحل تطور الوعي الديني في المشرق القديم يرى خليفة أن مرحلة الانتقال إلى يثرب هي التي ستجذر الدعوة الإسلامية، وتجعلها تتغلغل في البنية الصحراوية، فالقبائل العربية في يثرب، الأوس والخزرج، التي وجدت نفسها تُؤكل في حروبها الداخلية، وتحاصر بإمكانيات اليهود الاقتصادية، وتغدو مدينتها مهمشة وضعيفة تجاه مكة المستحوذة على السيادة على الحجاز، رأت أن مناصرتها للدعوة الإسلامية سوف تجعل مدينتها في مركز الصدارة.
ثم يمتد التناول بعد ذلك ليشمل العصر العباسي وإنتاج أول فلسفة عربية علي يد الكندي، وصولا لظهور الفرق وأهل الكلام، ويرى خليفة: أن الفلسفة لم تولد مع المعتزلة، رغم أنها استفادت من حركتهم الدينية السياسية الداعية للحركة والعقل، وقد كان للفلسفة أن تنشأ على أنقاضهم بعد أن عجزوا عن استثمار التراكم المعرفي في إنتاج رؤى فلسفية شاملة، كما أن الاختلاف بينهم وبين الفلاسفة، الذين سيكونون دينيين كذلك، إذا استثنينا الدهريين الذين أزيلت أقوالهم من الذاكرة التاريخية.
وينصب جهد خليفة على الأمور المتعلقة بالجانب الديني الذي يربطها بالبنى التحتية، وفاء لمقولات انحسر أنصارها وزمانها، حيث إن تشكل العقل الديني الإسلامي جرى فوق تطورات اجتماعية مركبة متضادة، فهناك محاولات لجعل البنية الاجتماعية في خدمة الإنسان، وبرغم أن هذه المحاولات كانت تحوي رموزا غيبية كثيرة، حيث لا عقل ممكن في ذلك الحين بدونها.
لكن كافة الرموز الغيبية والإرث الغيبي الواقعي واللحظة التاريخية، توحي بأن التاريخ حينئذ يعبر عبر عقل واقعي متحكم في سيرورته، وليس ذلك سوى مظهر لهيمنة الأكثرية على الثروة فالمصير.
ومما يجدر ذكره أن كتاب الاتجاهات المثالية كان قد صدر في العام 2005، وعده البعض تكملة لما بدأه حسين مروة، في كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية، وقد احتفي بالكتاب من المفكرين اليساريين خاصة بوصفه استئنافا للمشروع الماركسي لقراءة التراث العربي الإسلامي، واستمرارا لمحاولات قيمة لمحمود أمين العالم، ومحمد عابد الجابري، والطيب تيزيني، وحسين مروة، وآخرين.
يواصل الباحث والروائي عبـــــــدالله خلــــــــيفة رحلة البحث في تكون الأشكال المتعددة من الوعي العربي الإسلامي، مبتدئاً برصد الخريطة السياسية والاجتماعية التي تشكلت في زمن الدولة العباسية الثانية، وكذلك التجليات العلمية المرتبطة بالفلسفة والإنتاج، متوغلاً في تحليل التيارات الفكرية-السياسية التي لعبت دور القوى الاجتماعية الأكثر حضوراُ كالإسماعيلية والإثنا عشرية والقرامطة وإخوان الصفا والمعتزلة والأشعرية وغيرها من الاتجاهات التي عبرت عن الألوان الفكرية السياسية المختلفة والتي حاولت أغلبيتها أن تتجاوز النظام الإقطاعي-المذهبي لكنها كانت جزءً من مناخاته ومظاهره.
ويرصد الباحث بشكل موسع تجليات الفلسفة كما ظهرت لدى أهم رموزها كالفارابي وابن سينا والرازي والغزلي وابن باجه وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل وابن تيمية وملا صدرا الشيرازي.
الكتاب يمثل موسعة فكرية واجتماعية تترابط فيه الإبداعات العلمية والتطورات الاقتصادية والتحولات السياسية والأفكار المجردة ويعود فيه الفلاسفة والمنتجون الثقافيون إلى جذورهم، وتتكشف ارتباطاتهم بالنظام الاجتماعي العام، ومحاولاتهم للنفاذ منه دون أن يقدروا على ذلك.
إن الفلسفة العربية الإسلامية تظهر هنا في ضوء جديد، كنضال ثقافي قام به أفراد مميزون من الفئات الوسطى، لم يقدروا على الانسلاخ الكلي من النظام التقليدي المهيمن، لأسباب تتعلق بالبنى الاجتماعية ولتبعية الموارد للحكام ولطبيعة الفكر السائد، لكنهم قدموا مادة ثقافية مهمة انتقلت حصيلتها النقدية إلى أوروبا في زمن انتقالها من العصر الوسيط إلى الحداثة.
إن الكتاب يمثل حصيلة للفكر العربي التحديثي في عصر جديد.
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
⓵ ـ قراءة جديدة لظاهرات الوعي العربي
يتناول هذا الكتاب ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين : الدين والفلسفة، و بجذور هذا الوعي الأولى ، وهو يتشكل وينمو من المرحلة الجاهلية فظهور الإسلام وتشكل الدولة الإسلامية وحتى نهاية الدولة الأموية. إن هذا يمثل الجزء الأول من البحث المطول ، حيث أن ثمة أجزاء أخرى تعالج المراحل التالية .
وهذا موضوع ليس جديداً ، فهو كان ولا يزال مركزاً لدراسات لا تتوقف ، فلا بد أن يحمل هذا الجهد الجديد شيئاً مختلفاً ، يضيف إلى هذا الكم والنوع الكبير ، مساحة مختلفة من الرؤية.
وبطبيعة الحال فإن الباحث تجشم هذا العناء من أجل أن يطرح وجهة نظر مختلفة ، فالعمل هو رؤية جديدة إلى الوعي العربي ، تجعله كائناً تاريخياً مركباً ، فالوعي العربي ـ الإسلامي الذي تشكل في الجزيرة العربية ، لم ُتبحث جذوره التاريخية الممتدة إلى التاريخ القديم في المنطقة ، وإلى تضاريسها الجغرافية / الاقتصادية ، وإلى كونه مستوى في بنية اجتماعية متضادة متغيرة دوماً.
فإن يظهر الوعي العربي ، بصفة وثنية ، ثم ينعطف إلى الطبيعة الدينية التوحيدية ، فإن ذلك لا يتم في إطاره التاريخي المعزول عن الطبقات التاريخية السابقة ، ولا عن التطورات الفكرية في منطقته المشرقية ، التي غدت بعدئذٍ عربية ، ولا عن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها ، جدلاً مع التاريخ ، وحفراً في الحاضر.
إن بحث الطبقات التاريخية القديمة في المشرق ، عبر رؤية الأنظمة الاجتماعية المتشكلة ، وخاصة جوانبها الفكرية ، يقود إلى تحديد أنماط هذه الحضارات ، وأسباب تحجرها في نمط إنتاجي معين ، ليرى المحطة التي دخل فيها العرب ، والظاهرات المختلفة ، التي جعلت الإسلام يظهر بتلك الصورة التحويلية لهذا العالم المتجمد عند تشكيلته الاقتصادية ـ الاجتماعية.
إن قراءة التاريخ العربي / الإسلامي عبر تحليله من خلال جذوره في الماضي ، هو أمر سيفتح مستويات وعي البنية العربية / الإسلامية ، فهذا الوعي العربي المتنامي أخذ عناصر فكرية من الماضي كفكرة الآلهة أو الإله الواحد أو دور السماء كمركز لإنتاج الوعي المطلق وبعض أسماء الأنبياء وبعض الأفكار الدينية الخ..
ونحن نقوم بدراسة البنية الأولى ، بنية العصر القديم عبر هياكلها الإنتاجية ومستوياتها الفكرية ، ونقوم بالربط بين خيوط المرحلتين ، أي نرى كيف تواجدت تلك العناصر الفكرية في بنية الوعي العربي وأسباب تطورها بهذا الاتجاه داخله.
وقد ركزنا خاصة على بنية المجتمع العراقي الجنوبي ، وعلى الخطوط العريضة لتطور الإنتاج والوعي فيها ، وعلى الخطوط العريضة لتطور الوعي الديني في مصر ، بحيث نكتشف طبيعة النظام الاجتماعي المشترك ، ودور هذا النظام الاجتماعي المشترك في تجمد التطور التاريخي ، أي في البقاء ضمن تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية واحدة.
فالوعي العربي ، ومن ثم تطوره اللاحق ، الوعي الإسلامي ، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصر القديم ، سواء عبر علاقته المباشرة ، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان : الوثني ، واليهودي ، و المسيحي.
أننا سنقوم برؤية علاقة التداخل هذه ، سواء بالاستفادة من المؤثرات أم بتجاوزها ، وبناء منظومة جديدة . ولكن علاقة التداخل هذه ستكون معقدة وذات مستويات ، ففي المرحلة الجاهلية تكون العلاقة مختلفة عن المراحل التالية ، بحيث إن العلاقة تحكمها تطورات البنية الاجتماعية الداخلية، فاسترجاع الماضي ، أو الاستفادة من المؤثرات القادمة من الخارج ستخضع لهذه البنية الداخلية وصراعاتها.
إن هذا يقودنا إلى تحديد نمط وتطور البنية الاجتماعية العربية، أي دراسة الخطوط الرئيسية لإنتاجها ، وأشكال الوعي السائدة فيها ، حيث سندرس طبيعة البنية ‹‹الرعوية›› وتأثيراتها الكبيرة على الوعي والتطورات الاجتماعية والفكرية والسياسية.
ولكن دراسة البنية الاجتماعية لا يجعلنا مأسورين في طابعها التـقني ، أي أن نعتبر الرعي اتجاهات فكرية وسياسية ، بل نحن نعتبره علاقات اجتماعية واقتصادية معينة ، في حين إن الاتجاهات الفكرية والسياسية تعود إلى مستوى آخر ، لكنها ترتبط كذلك بالظروف الاجتماعية السائدة.
فإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي هذا المجتمع العربي الرعوي فلا بد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع ، ولكنه من حيث الإتجاه هو تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا ، ويستهدف تخطيه وتمدينه. وهنا تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة [مكة] كقائدة حضارية لهؤلاء الرعاة . وبين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
إن سيادة الجسم الرعوي تعبر في حد ذاتها عن مستوى البنية ، وبالتالي فإن الاتجاهات الحضرية فيها لم تقم بحسم عملية التطور الاجتماعي ، والدخول في بنية اجتماعية ذات نظام سياسي محدد، وكان الرعاة (الساميون) لهم تجارب في هذا القفز التاريخي، وعبر ذلك كانت العلاقات الاجتماعية العليا تحمل العلاقات الاجتماعية الدنيا، في مركب غير متناسق، (1).
والإسلام نفسه هو العملية الحضارية الهادفة إلى تغيير هذه البنية الرعوية السائدة ، وهو يظهر من خلال موقع اجتماعي وفكري محدد ، حيث برز كثورة ، أي أنه صعد من خلال تحالف اجتماعي طليعي مقاتل ، وإن هذا التحالف هو الذي جعله يرتبط بأغلبية السكان ، وبالتالي يعيد تشكيل الجزيرة والمشرق والعالم المحيط من خلالها.
لكن هذا الاتجاه يخضع لعملية التطور والصراع بين الجماعات الاجتماعية ولمستويات تطورها وفاعلياتها ، وبهذا فإن البنية الاجتماعية الرعوية أساساً خاضعة للصراعات الداخلية وللمؤثرات الخارجية ، خاصة عملية الفتوح التي سادتها القبائل الرعوية ومستوياتها الاجتماعية والفكرية ، وقادها المركز القرشي.
وبهذا فإن البنية الاجتماعية للعهد النبوي تختلف عن البنية الاجتماعية للعهد الراشدي ، من حيث كون الأولى عربية ـ جزيرية بدرجة أساسية ، وكون طبيعة حركتها الاجتماعية وطريقة تقسيمها وتوزيعها للملكية ، وبسبب غياب الدولة وملكيتها ولبداية تشكل أجهزتها ، في حين إن بنية العهد الراشدي اعتمدت على حركة الفتوح وهجرة السكان المقاتلين وعوائلهم إلى الأمصار وبدء تشكل الدولة العربية الواسعة التي تضم المشرق العربي والإسلامي ، الذي لم يصر عربياً وإسلامياً بعد حينذاك.
إن بنية العهد الراشدي تعتمد على ظهور ملكية الدولة للأراضي العامة [ الصوافي ] ، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع ، وهذا ما أدى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية ، ومع ترسخ هذه البنية واستعادت الهياكل الاقتصادية العائدة للعصر القديم ، تبدأ صراعات اجتماعية وسياسية عميقة في هذه البنية ، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
وتتوغل الدراسةُ في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها ، بحيث نقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي / الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة ، أي نقرأ عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة ، و طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها ، بحيث نصل إلى دراسة التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية التي أستقر عليها.
⓶ ـ موقع الاتجاهات المثالية من التطور الاجتماعي:
إن قراءة هذه الخطوط العريضة والتفصيلية للتطور الاجتماعي لا تفصلنا عن دراسة بؤرة الموضوع ، وهي مسألة الاتجاهات الفكرية المثالية.
إن المثالية عموماً هي وجهات النظر التي ترى أسبقية الوعي على الوجود ، وهذه الأسبقية قد تكون من خلال أسبقية الألوهية أو الأفكار أو الماهيات والجواهر في صنع العالم ، أو أسبقية الوعي الفردي ، (2) .
وقد أعطى الإنسان قديماً الأرواح المختلفة القدرة على التحكم في الوجود المادي والمصير الإنساني ، وكان الإنسان ـ الحيوان جزءً مادياً ملتصقاً بالطبيعة عبر مئات الآلاف من السنين ، وحين بدأ الانفصال البطيء الطويل المحدود عنها ، عبر العمل كانت تبعيته مع ذلك للطبيعة عميقة وغائرة في هياكله الاجتماعية والفكرية ، سواء عبر المنظومة العشائرية ، أم عبر سيطرة الأرواح وأرواح الأجداد والطواطم وعبادة الأمهات والكواكب والنجوم ، على وعيه وتنظيم حياته.
إن انقسام الأرواح إلى خيرة وشريرة كانت تعبر عن الطابع المتناقض للظاهرات الكونية والمادية والبشرية ، وهي تنمو عبر التمحور في كائنات ما ورائية مطلقة ، هي الأرواح والآلهة والشياطين والمسوخ المختلفة الخ..
إن تبعية الإنسان للطبيعة هنا ، وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه ، كانت تقود إلى سيطرة القوى الما ورائية المختلفة ، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
وهكذا فإنه أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في هذا الإنتاج الروحي ، كشكل أولي سحري من المثالية ، أي عبر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدرة على السيطرة على الداخل الإنساني ، سواء كان هذا الداخل تنظيماً اجتماعياً أم أفكاراً ومشاعر.
هذه الطبقة من الرؤى السحرية والطقوسية هي الجذور الأولى للوعي الإنساني ، وهي التي تواجدت مع تشكل الحضارة البشرية في منطقة المشرق ، وبدء تحول القرى إلى مدن وظهور الدولة والطبقات الخ..
لا بد أن نلاحظ التمايزات التي تشكلت في المشرق [ العربي ] منذ البدء عن المناطق الاجتماعية ـ الفكرية الأخرى ، كالمنطقة الهندية ، والصينية وغيرهما ، حيث لعبت العناصر الطبيعية [السماوية] خاصة من نجوم وكواكب ومطر وشمس وأنهار دورها في الانقسامية الكبرى للأرواح الخيرة والشريرة ، ثم في التشكل الثنائي المتضاد لها ، حيث للأولى الجوانب العليا المهيمنة الطيبة الخيرة ، وللثانية المستويات الدنيا وحدوث الانفصال الكلي المطلق بينهما .
كانت هذه تركيبة متداخلة مع العصر الأمومي ، وكانت هذه الأخيرة تشكل آلهة أنثوية إنتاجية ومسالمة ، ولكن مع تشكل الحضارة في جنوب العراق وصعود المدن من قرى المستنقعات ، وظهور السلطات والطبقات ، فإن تلك التركيبة السماوية الشاملة ، سوف تصعد الأرواح والآلهة الصغيرة والقبائل الإلهية لتحكم السماء وتسيطر على تنظيم الكون والحياة الإنسانية ، بشكل شرس وعنيف ومتفرد . كذلك فإن هذا يترافق مع انتقال الحضارة من المجموعات السومرية الزراعية المسالمة إلى القبائل السامية الرعوية العنيفة.
إن تبلور الأرواح على شكل آلهة عليا ترافق وانقسام العمل إلى عمل يدوي وذهني ، وحصول السحرة والكهنة والملوك على موقع أعلى من المنتجين ، فأخذ الأولون عبر الرموز السماوية كالكواكب والنجوم في تجسيد السلطة المتعالية.
لقد أخذت المثالية صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية ، حيث القوى الغيبية المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة ، فتنهدس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع قوى الطبيعة الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ..
ثم هي لا تكتفي بتشكيل الطبيعة في المدة الزمنية القصيرة الممدة على أيام الأسبوع ، بل أيضاً تقوم بتنظيم الحياة الاجتماعية بالصورة التي ترتئيها ، فتضع الرجل والمرأة في الأمكنة التي تريد ، وتصنع الإنسان من طين أو من بقايا إله قتيل ، وتعلن الوصايا الاجتماعية والسياسية التي لا ُتخرق أبداً .
هكذا غدت الغيبية الدينية الأم الأولى للمثالية ، المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد ، التي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود ، وهذه الأفكار الغيبية نقول إنها نظرات وأفكار مثالية ، من حيث إعطائها القوى الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية ، الدور الأول في صياغة العالم ، لكن الفلسفات المثالية ستتشكل فيما بعد ، معتمدة على هذه الجذور الدينية والأسطورية حين تتراكم المعارف ويُكتشف التجريد والتعميم النظري ، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة.
إن الجانبين يتفقان في أسبقية الوعي وتشكيله للعالم ، والجانب الأول يشكله عبر المواد السحرية والقوى الخارقة المختلفة ، والجانب الثاني يشكله عبر الآلهة والأفكار المطلقة والقوى المجردة والرموز المختلفة.
والجانبان يعبران عن مرحلتين تاريخيتين ومستويين فكريين / اجتماعيين ، مختلفين ومتداخلين ، فالأول يعبر عن المناطق التي سادت فيها الأديان حيث هي الأفكار التي تتعاضد فيها العمليات العقلية التصويرية والتجريدية.
ويلعب التصوير دوره الأساسي ، ويتمظهر عبر القصص والملاحم والأناشيد والأساطير الخ .. فيجسد الآلهة والقوى الغيبية المتحكمة في الوجود ، وحينئذٍ تكون العلاقة بين الجمهور المنتج والسحرة والكهنة والملوك علاقة هيمنة مطلقة من قبل الأخيرين ، وتتمظهر عملياً عبر المعابد والطقوس ، فيسود فيها الانفعال وتغييب عقل الجمهور ، ومن الممكن أن نجد هنا عناصر مادية كالهواء والماء والنور وغير ذلك ، ولكنها مجرد عناصر مسيطر عليها وذائبة في القدرات الخارقة للآلهة والشياطين التي أخذت تهيمن بشكل أساسي ، على الوجود السياسي / الإيديولوجي ، حيث إن الآلهة معبرة عن الخير وقوى النظام والصحة والحساب الخ .. ، والقوة الثانية أي الشياطين معبرة عن قوى الشر والرفض والمرض الخ..
إن قوى الطبقات المسيطرة المتجسدة في المشرق ، ثم في امتدادا ته المناطقية والعالمية ، تحيل عناصر المادة إلى عناصر مهيمن عليها وذائبة ، مثلما تفعل في العناصر المادية الاجتماعية كالمدن الحرة والصناعة والتجارة ، فهي ُتلحقها بالطبقة المهيمنة بفرعيها الملكي / الديني.
ولهذا فإن العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري ، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد ، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
إن التحام العناصر السحرية والدينية بالنظام السياسي العبودي المُعمّم ، حيث السلطة السياسية معبودة وملتحمة بالآلهة ، يجعل هذا النمط من المثالية الفكرية ، ينيخ على الفضاء الفكري للناس ، جاعلاً إياهم جزءً من حيوانات الإنتاج ، فلا تعطى مفردات العالم الموضوعي : الطبيعة ، المجتمع ، الوعي ، استقلالياتها وتفرداتها ، وتغدو كلها تابعة للآلهة والكائنات الغيبية المطلقة.
لهذا تغدو الأديان مهيمنة على الوعي على مدى آلاف السنين ، مع نمط الإنتاج العبودي العام ، وبنائه التقني وهو الزراعة ، ولكن تشكل الدول الكبيرة ونمو المدن واتساع التجارة والحرف ، يشكل نمواً مختلفاً للوعي ، وفي الدول العبودية المعممة القديمة المشرقية ، لم تتشكل الفلسفة ، أي هذا الوعي المتميز النوعي المستقل عن الدين ، كبنية فكرية تنظيمية ، وليس كاتجاه ، أي إن الدول المشرقية العبودية منعت حتى انبثاق هذا الوعي ذي الصفة الاستقلالية عن الغيبيات الدينية ، والذي يغدو إنتاجاً فردياً مميزاً ، في إطار تذويبها للأفراد وللعقل المستقل والنقدي. لكن الوعي المعارض والثوري يتمظهر عبر الدين نفسه في صراعات متعددة ومتداخلة، تشكل مسار التطور الاجتماعي والفكري المتضافر.
في المدن الحرة اليونانية الديمقراطية التي تحميها الموانع الطبيعية والعسكرية الشعبية ، عن هيمنة الدول العبودية المعممة المشرقية ، أمكن لهذا الوعي المستقل أن يتشكل بصفة نسبية هامة عبر صعود دور التجارة و [الصناعة] ، دون أن يتحرر كلياً من الغيب الديني والأساطير، ومستفيداً من الثروة العلمية والأدبية الكبيرة التي تشكلت في المشرق.
ولهذا حدث التمايز بين الشكلين من الوعي المثالي ، الأديان /الأساطير ، والفلسفة ، وحين ذهبت الأخيرة للمشرق ، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها ، فتقوم الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية ، مثلما تقوم الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
إن الشكلين من الدين والفلسفة ، هما الشكلان المتميزان الرئيسيان من الوعي المثالي ، في المشرق ، ويعتبر الدين حجر الزاوية في البناء الفكري ، نظراً لارتباطه بالعمليات السحرية في الوعي والبناء الاجتماعي ، وبأشكال جماعية طقوسية ، مؤد لجة لحماية الأنظمة العبودية المعممة ، والإقطاعية فيما بعد ، وحيث تجد القوى الشعبية المعارضة أصواتها الجماهيرية كذلك ، في حين إن الفلسفة هي نتاج ثـقافي فردي وجماعي لم يظهر في عمليات الطقوس والشعائر السحرية والغيبية ، بل عبر الوعي ‹‹العقلي›› للأفراد والنخب الثـقافية والفكرية ، ولهذا فهو كنوع نتاج الاستقلال عن البنية الأسطورية والدينية ، المعبرتين عن الدولة ، بجناحيها السياسي ـ الديني ، المفارقة والمطلقة ، والمتحكمة كلياً ونهائياً في البشر، وكذلك عن التمردات والثورات ضد هذه الدولة بمستوييها السياسي والديني.
فالآلهة والشياطين الخ ليست في النهاية سوى تمثلات للسلطات والاتجاهات المختلفة ولقوانين التطور الطبيعية والاجتماعية المُغيبّة ، وعمليات تبدلها المستمر عبر العصور ، ولكن من حيث إفقادها الطبيعة والمجتمع والوعي كياناتها المستقلة وتطوراتها الموضوعية.
إن هذه الأنظمة العبودية والإقطاعية التي ألغت الوجود البشري ، وألحقت المنتجين بالتالي بحيوانات الحقول ، عبر جعل كائنات الأديان والأساطير تهيمن بشكل مطلق على الوجود ، ستناوئ الفلسفة كقوة فكرية للمثـقفين المستقلين والأحرار ، ولكنها أيضاً ستتدخل في هذا الشكل الجديد من الوعي القادم من بلاد اليونان .
⓷ ــ الدين والفلسفة كشكلين متميزين للوعي :
في كلا الجانبين الدين والفلسفة ، تكمن النظرة الشاملة للوجود. فالدين يقوم بتنظيم الحياة والكون عبر ترتيب قصصي أو ملحمي ، أي معتمداً على المادة التصويرية ، لإنتاج منظومة فكرية تهيمن على السلطة ومن ثم المجتمع والبشر وتحاول تأبيد وديمومة وجودها إلى الأبد.
ورغم إن الدين هو من تبليغ أو تشكيل أو بناء شخوص محددة هي الأنبياء أو القادة ، فإن المصدر الفردي لا يعتبر جوهرياً، فالفرد ذاته هو صوت للغيب ، أو للأرواح ، فهو رسول القوى ألما ورائية ، مما يعبر عن قوى غير فردية، ولهذا يكون عادة جزءً من المرحلة القبلية البطولية ، فيتداخل النسيج الغيبي والأسطوري بالدين ، متجسداً عبر مادة تصويرية غالباً ، ويكون بناؤه أقرب للشعر منه للنثر.
وليس في هذه المادة التصويرية برهان أو تسلسل منطقي ، وإنما هي مادة موروثة التحمت بالطقوس والعبادات. وإذا أخذت بنموها الفكري والاجتماعي في البنية التي ظهرت فيها ، يمكن رؤية تطورها السببي ، ولكن باعتبارها مادة منزلة من السماء ، أو باعتبارها نتاج القوى الخفية ، فليس هنا أية سببية برهانية متسقة لها.
ولهذا يحدث التمايز هنا بينها وبين الفلسفة ، التي تعتبر نتاجاً فردياً عقلياً محضاً ، فتتشكل على أساس المنطق والحجج والبرهان ، وهذا بحد ذاته يؤدي إلى الصدام بين هذين الشكلين من الوعي ، فالدين الجماهيري السلطوي الغيبي أو الجماهيري التمردي يتشكل بلا برهان ، ومن مجموعة من القصص والحكم والمواعظ ، في حين إن الفلسفة المكونة من خلال الأفراد والمعتمدة على أبنية فكرية متسقة ، تبدو أعلى في كيانها ومرتبتها من الدين ، نظراً لتشكلها عبر العلل واعتمادها على ثمار العلوم المختلفة ، وهي بهذا العلاقة المتوارية الضمنية ، تقوم بالهجوم على الدين ، أو على الأقل بالاختلاف والتمايز معه ، وتغدو كبناء فكري نتاج مرحلة بشرية أكثر تقدماً.
ويغدو نموها في الطبقة الوسطى ، أي في شرائح المتعلمين والمثقفين والتجار ، عاملاً آخر في تناقضها مع الدين الذي يلتحم مع المؤسستين السياسية والدينية. أي مع الطبقة الحاكمة بفرعيها الأساسيين.أي أن كافة الاتجاهات الدينية تقوم بالتوغل في الفلسفة ، وهذا يرتبط بمستوى التطور ومدى فاعليات الطبقات الوسطى والشعبية.
والعلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري ، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي ، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الأشراف والطبقة الوسطى ، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما . ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأول الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الطبقة الوسطى في مدن حرة ، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الطبقة الوسطى وإلحاقها بالدولة و صعود طبقة ملاك العبيد .
إن عمليات التعاون أو الصراع تعتمد على الظروف السائدة في البنية الاجتماعية واتجاهات التطور فيها ، وعلاقات التداخل والتباين بين مستوياتها وأشكال الوعي فيها ، ولهذا فليس من الممكن المعرفة المسبقة بعلاقات الدين والفلسفة ، وهما كشكلين من الممكن أن يحدث تعاون وتداخل بينهما ، حسب رؤية المفكر ، فيحدث توظيف كل منهما للآخر ، ومن الممكن أن يحدث الصراع .
إن الاتجاهات السائدة في البنية هي التي تلعب دوراً كبيراً في علاقة الدين بالفلسفة في المشرق ، نظراً لأن الفلسفة تالية والدين قديم وراسخ ، فهذه الاتجاهات السحرية والأسطورية والدينية نظراً لخمسة آلاف من الحضارة العبودية المعممة الاستبدادية هي التي كونت القواعد العقلية الجماهيرية ، في مناطقها الزراعية المنعزلة ، وتغدو المدن مكان إدارة الطبقة الحاكمة بمؤسساتها السياسية والدينية ، وتصير فئات التجار والمثـقفين والإداريين الخ ، ذات علاقة تابعة بالطبقة الحاكمة ، ومن ثم تصير الفلسفة تابعة للدين .
ولكن أيضاً من الممكن مع اتساع الدولة والتجارة والحرف ، أن تظهر فئات إنتاجية وتجارية ومالية غير تابعة للدولة ، أو أنها تُرهق وتعاني من استغلال الحكام ، فتقوم بإنتاج وعي مختلف ، نقدي ، أو تشككي ، أو معارض بصورة مبطنة دينية أو صوفية أو عقلانية الخ ..
ومن المؤكد إن حجم ونوع هذا الاختلاف يعتمد على مدى تطور الفلسفة باتجاه القراءة الموضوعية للطبيعة والمجتمع والوعي ، ومدى شمولية الدين وتداخله مع السلطة أو السلطات ، واتساع أو ضمور المواد العلمية الناتجة من الأبحاث وتطور التقنية والترجمة ، ومدى دور وأهمية النزعات المادية في داخل الأبنية المثالية أو خارجها الخ..
وتقود الصراعات في البنية الاجتماعية إلى تفكك المنظومة الدينية الشاملة الوحيدة إلى مذاهب متعددة ، تعبر عن النزاعات الاجتماعية والقومية غير المعبر عنها سياسياً ، وتتخلق بشكل مذاهب وربما أديان الأقليات المختلفة ، وهذا كله يتغلغل في الفلسفات ، لتغدو اتجاهات متعددة ، وللجسم الإمبراطوري شكله التطوري الخاص ، بخلاف زمنية التفكك والدويلات ، بحيث إن التعميمات الفكرية والاستخلاصات المجردة المتعالية فوق البُنى التاريخية المحددة ، تقود إلى استنتاجات غير دقيقة.
فحين نناقش ـ على سبيل المثال ـ تيار المعتزلة ينبغي أن لا يُؤخذ فوق البُنى التي تتشكل وتتنامى داخل تضاريسها ، ففي عصر الدولة الأموية كان الاعتزال يتطور بشكل ، هو بمثابة المرحلة التأسيسية له ، ولكن هذا الطور الأول ليس متماثلاً مع الطور الثاني ، رغم وحدة المفاهيم الأساسية ، لأن البنية الاجتماعية الجديدة قامت بإعادة تشكيل الاتجاه ، فقد كان في الطور الأول قيادياً طليعياً ، أما في الطور الثاني فكان تابعاً للدولة ، وهذا مرتبط بعملية الصراع الاجتماعية ـ الفكرية ، ولهذا سوف نقرأ التباينات الاتجاهية والمعرفية في الطورين ، وسنرى علاقة ذلك الوثيقة بالبُنى ومدى هيمنة الدولة ـ الدين فيها، والفروق بين الطورين والجوانب المتضادة فيهما .
أي أن اتجاه المعتزلة سيُؤخذ ليس كاتجاه فكري له جذوره الموضوعية فحسب ، بل كفاعلية فكرية وسياسية داخلة في البنية ومراحلها المختلفة مؤثرة ومتأثرة بها، ومن هنا ستتضح الفوارق الدقيقة بين كل مرحلة ، والعمليات التي تؤسس الوعي ، وعمليات الوعي في الحياة.
وسندرس كل اتجاه حسب هذه الطريقة ، وتفاعل الاتجاهات المختلفة ، داخل البنية الإمبراطورية ثم في البنى الإقليمية ، وسنقرأها في ضؤ التفاعلات بينها ، مستعيدين جذورها وجذور المنطقة والأقاليم المختلفة ، لتتشكل لوحات مركبة للدين ، وللاتجاهات الفكرية ـ الدينية وللمذاهب والعلوم والفلسفات.
ولهذا فإن هذا الجزء من البحث سيقوم بقراءة الجذور القديمة والمعاصرة لتشكل الوعي العربي بين مرحلتيه الوثنية والإسلامية، وحيث لا يوجد هنا سوى وعي ديني بمرحلتين وببنيتين، وهي المرحلة التي ستضع القواعد الأساسية للمرحلة التالية للعصر العباسي الأول .
في حين سيبحث الجزء الثاني الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي الثاني .
أما الجزء الثالث فهو يختص ببحث أبنية الفلسفة المختلفة .
وهذا التقسيم سوف يضعنا على التشكلات المعقدة لبنية الوعي المتطورة، والملتحمة بالتطورات الاجتماعية والفكرية المختلفة، بحيث نكتشف ظاهرات الوعي المتعددة، في نوعيها الرئيسين: الدين والفلسفة، ومن بذورها الصغيرة وكيف تتنامى في أشجار كبيرة .
أننا حين نبحث في المذاهب الدينية سنرى أسباب انقساماتها وتدرجاتها ، حسب الوعي والجغرافيا، وعلاقاتها بالصراعات الاجتماعية و [القومية] والمستويات الفكرية للمناطق ، وعلاقاتها بالعصر القديم والمادة الإسلامية.
أو حين نتتبع تياراً فكريا سنقرأه عبر مراحل تطور البنية الاجتماعية العربية / الإسلامية ، حيث سيبدو مضمراً وصغيراً في مرحلة ، كما يحدث للصوفية على سبيل المثال ، حيث ستبدو اتجاهاً زهدياً في المراحل الإسلامية الأولى ، ونقرأ أسباب التشكل بهذا المستوى ، ثم سنرى الصوفية في مرحلة أخرى وقد أعطاها التطور الاجتماعي والفكري القواعد الأساسية لتغدو اتجاهات مستقلة عن البنية ، وكظاهرات وعي متميزة.
إن التداخل المعقد بين ما هو اجتماعي وفكري سوف يتيح لنا تفكيك هذه الاتجاهات والفلسفات بصورة جديدة في القراءة المعاصرة .
إن مصادرنا القديمة والمعاصرة تحفر بدرجات متفاوتة في هذه المادة ، فالمصادر القديمة تقدم المادة بصورتها الخام بهذه الدرجة أو تلك من الأمانة والعرض ، وبدرجة محدودة من العرض التاريخي والقولي ، لكن تغيب عنها البنى المركبة الاجتماعية والفكرية لكل مرحلة ، وفي العصر الحديث تم التوجه إلى التوغل في التسلسل التاريخي وبعض سببياته المحددة و المباشرة كموسوعة أحمد أمين الهامة ، أو رؤيته من خلال البنية الصراعية للعصر دون الجذور التاريخية المركبة للمنطقة ومراحلها المختلفة ، أي دون التضفير بين الصراعات الاجتماعية والتضادات الإنتاجية البارزة للأقسام الرعوية والزراعية ، كما كتب الباحث حسين مروة في النزعات المادية ، إلى الكثير من المساهمات المفيدة والعظيمة، والتي تحتاج في الآونة الراهنة إلى التغلغل الأعمق إلى تضاداتها العميقة والمركبة .
لو أخذنا الأستاذ أحمد أمين كنموذج لقراءة الوعي الديني والفلسفي فما سنجد؟
يعتبر الأستاذ أحمد أمين من كبار الباحثين العرب الذين أعطوا الكثير للبحث العلمي في مجال التاريخ الفكري والفلسفي العربي، فقد غربل هذا الرجل لوحده مئات المجلدات العربية القديمة، وفحصها أيضاً على ضؤ الدراسات الأوربية في عصره ومن خلال شخصيته المنفتحة ، وليقدمها مشروحة مكثفة منتقاة، باحثاً عن خيوط النور والوعي فيها، غير متجاهل لأثر البيئة والوسط والأحوال المادية والفكرية وتلاقح الأجيال والعصور والأفكار.
جهدٌ كبيٌر وعملٌ عظيم ، فأياديه بيضاء على الباحثين ممن جاءوا بعده ، فتلمسوا الأرض الممهدة والجهد الخلاق ، فأضافوا وحفروا وشقوا دروباً جديدة.
استطاع أحمد أمين أن يرى تداخل العصور الفكرية ، فهو لا يصور المنتجات الفكرية وكأنها منقطعة السُبل عن بعضها البعض ، بل يراها كمعاناة اجتماعية بشرية لإنتاج وعي جديد ، وتمثل موسوعته : فجر الإسلام، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ، ذروة عمله العلمي الذي عكف عليه طوال حياته ليضع التاريخ الفكري للأمم الإسلامية رهن المادة المتداولة المدروسة .
في استعماله لألفاظ : الفجر، الضحى، الظهيرة ، تعبير زمني عن جدلية التطور ، فهو يدرس تطور الوعي وكأنه في لحظة نمو نهاري ومتوقف عند سمت الشمس العمودية وليس الغاربة ، وفي هذا حدس بالصيرورة الاجتماعية وقد اتخذت صفة اليوم، ومن هنا تراه يعكف على بلورة التطور العام للفكر ، مموضعاً إياه في ظاهراته المختلفة ، مقسماً إياه في شرائحه الفكرية والاجتماعية المختلفة الكثيرة، فهو يدرس الأدب والفلسفة والدين والحياة الاجتماعية الخ..، بحيث يقود هذا التشريح الموضعي إلى فهم الصفات المشتركة .
ومن هنا لن تجد لديه التعميمات والصفات العامة، فكلمة [ عربي] لن تُؤخذ بإطلاق، بل في مكانها الاجتماعي والتاريخي ، ولهذا يقول عن أبن خلدون :
[فترى من هذا أن أبن خلدون في حكمه على العرب خلط بين العربي في عصوره المختلفة ، وأصدر عليه أحكاماً عامة ، مع أنه هو نفسه القائل بأن العربي يتغير بتغير البيئة.]، (3).
إن أحمد أمين وهو يقوم بقراءة التاريخ المحدد، أي المُنتَّج في فترة تاريخية ما، سيبحث عن العوامل البشرية المؤدية إلى تشكيله، ولن يعطي لأحد العوامل أهمية استثنائية، ولهذا فهو يعرض العوامل والظواهر جنباً إلى جنب بموسوعية، وحتى الظواهر الغيبية سيضعها داخل صيرورتها الإنسانية، دون أن يغفل الطابع المركب لهذه الظواهر، حيث سنرى جذور الماضي تتدلى قرب رؤوس الحاضر، والحاضر بدوره يحمل مواليد الغد، وهذه الجدلية المركبة ، لن تعترف بالمطلقات كالقول بالعقل اليوناني والعقل العربي والهندي وكأنها براميل مستقلة ، تحمل موادها الكيميائية الخاصة المتجوهرة على ذواتها ، وسيجد إن العقل العربي في مرحلة البادية مختلف عن عصر المدن ، دارساً الظاهرات المتحدة والمتنوعة له ، وهو يلاحظ هنا عمليات معقدة تجري للوعي العربي، فحين يتناول أبا ذر الغفاري كشخصية داعية للمساواة، يتتبع أثر الأفكار المنتشرة والقديمة والمتداخلة بين الشعوب فيقول : [ونلمح وجه شبه بين رأي أبي ذر الغفاري وبين رأي مزدك في الناحية المالية فقط ]، (4).
ومهما كانت صحة آرائه هنا، أو كذلك تحامله على عبدالله بن سبأ، فنحن يهمنا هذا الالتقاط للشعيرات الفكرية والاجتماعية المتداخلة.
ويعبر كل هذا عن قراءة التداخل بين الوسط والوعي بشكل زمني متصاعد، يرجع للوراء قليلاً ، لكنه ينمو دوماً إلى الأمام، وليس هذا الوسط إلا حدود الجغرافيا الطبيعية والاقتصادية والفكرية ، متقطعة في المراحل السياسية المعهودة في التأريخ: العصر الجاهلي ، فالإسلامي، فالأموي الخ..
وهنا تلعب المرجعيات الفكرية الليبرالية لعصر أمين دورها ، فمفاهيم الوسط والبيئة والعوامل المختلفة المؤثرة، هي التي تقوم بالتحليل المتضافر المنساب عبر الزمن، أما مفاهيم البنية الاجتماعية وقوانينها ، فهي مرحلة لم تصل لها هذه المنهجية بطبيعة الحال ، (5).
والفارق بين المنهجيتين ، أي بين منهجيتي البيئة والبنية ، يعبر عن أدوات التحليل بين زمنين ، فمفهوم الوسط البيئي لدى أمين لا يعبر عن صراعات القوى الاجتماعية في ظل بنية محددة، يقوم العلم بدراستها ، ثم يتتبع البُنى التالية وأسباب ظهورها وتشكيلاتها، فلا يغدو التاريخ الفكري مجرد مؤثرات على وسط غامض الملامح ، بل تأثيرات على بنية أو بُنى تزداد تناقضاً ثم انفجاراً متيحة الدرب التاريخي لبنية أخرى.
فنظرة أحمد أمين لا تستطيع أن تفسر بعض القضايا المركبة ، كالقول بأن الإمامية هي ذات جذور فارسية ، وأن [ثانوية الفرس كانوا منبعاً يستقي منه رافضة الإسلام]، (6) ، فمسائل التيارات الفكرية أعقد من ذلك، وظروف الصراعات العربية الداخلية كانت هي الأساس في إنتاج مثل هذه التيارات ، مع أهمية المؤثرات الخارجية.
إن فترات العصر النبوي والراشدي ، والفترة الأموية ، والعصر العباسي الأول ، والعصر العباسي الثاني، التي يتخذها أمين كفترات معروضة في أجزائه، هي بحد ذاتها بُنى اجتماعية لها قوانين تطورية مختلفة عن المراحل الأخرى، وميزته إنه يقوم بعرض ظاهراتها المختلفة ، بدون التوصل لقوانين الصراعات الاجتماعية فيها ، فليس لديه مفهوم البنية وترابطها، لأن هذه البنية هي التي تحدد تشكل الظاهرات الفكرية التي يدرسها، ولكنه يأخذها مستقلة عنها غير متضافرة بسبب علل جوهرية، مع أهمية المعلومات والمواد التي يقدمها عنها.
ومثال آخر نقرأه لدى الأستاذ الدكتور محمود إسماعيل، فالباحث الدكتور محمود إسماعيل هو من القلائل في مصر الذين اعتنوا طويلاً بالبحث في التاريخ والفلسفة العربيين ـ الإسلاميين ، وكان أول كتاب له عن [الحركات السرية في الإسلام] وهو الكتاب الذي صدر في بداية السبعينيات ، وقد افتتح فيه تحليل التاريخ الإسلامي من وجهة نظر كشف تطور الصراع الاجتماعي ، ثم تتالت كتبه عن ظاهرات الفرق والاتجاهات خاصة في شمال أفريقيا التي درّس فيها حقبة هناك ، ثم أصدر كتابه الأساسي [سيوسيولوجيا الفكر الإسلامي] وهو أربعة أجزاء يتناول فيها تطور الوعي في التاريخ العربي الإسلامي وكيفية نشأة الفرق والاتجاهات الفكرية والفلسفية المختلفة ، مستخدماً أسلوباً سهلاً في العرض ، معززاً إياه بمئات المراجع والنصوص ، مما يعتبر مرجعاً لأي دارس لهذه الظواهر .
وإذا كان أسلوبه يمتاز بسلاسة العرض وبساطته نظراً لاستمراره في العملية التدريسية وثورية أفكاره ، إلا أن التبسيطية في النظرة إلى التاريخ الفكري تنتشر لديه في الخطوط العريضة لرؤية هذا التاريخ.
فهو يقسم التاريخ الاجتماعي إلى قوتين متصارعتين هما البرجوازية والإقطاع ، والتطور والحداثة والعلم تأتي من الأولى ، أما القوة الثانية فهي قوة تخلف وارتداد ، وهو حكم صحيح في عموميته الواسعة ، ولكن إلى أي مدى كانت البرجوازية تستند إلى أسلوب إنتاج بضاعي وصناعي ، وما هي تداخلاتها مع التيارات الفكرية والفلسفية ، فإن هذه مسائل مركبة يبسطها الدكتور محمود إسماعيل ، فلا يقوم بتوصيفها التوصيف الدقيق المتداخل ، لأنه يلجأ عادة إلى التعميم.
في الجزء الثالث ، على سبيل المثال ، وهو المختص بدارسة أفكار الفلاسفة والفرق الفلسفية ، يتعرض لمدرسة [أخوان الصفا] ، وهي المدرسة الفكرية السرية التي ذاعت أفكارها في العالم الإسلامي عبر التاريخ.
وحول الاختلافات في تاريخ ظهور هذه المدرسة وعن صحته يقول الباحث : [وعندنا أن ظهور المعلومات الأولى هذه عام 360 هـ لا يخلو من دلالة على ارتباط هذا الظهور بعصر الصحوة البورجوازية الثانية ـ من حول منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس الهجري ـ وهو عصر المد الليبرالي الذي شهد ظهور كيانات سياسية كبرى تمثل في الدولة البويهية والدولة الفاطمية والخلافة الأموية بالأندلس ، وهي كيانات ذات طابع بورجوازي حققت الكثير من طموحات إخوان الصفا]، (7).
إن هذه الكلمات العامة عن الصحوة البرجوازية والمد الليبرالي، يجب أخذها بحيطة موضوعية وتدقيق بالغ ، فهل يمكن اعتبار عصر الدولة البويهية عصر [صحوة] ، وما معنى الصحوة في سياقات البحث الاجتماعي ، وهل الدولة البويهية دولة بورجوازية؟ إن كلمة [صحوة] تقابل النوم ، فكأن العلم الاجتماعي يتحول هنا إلى استخدام التعبيرات الفضفاضة المتعلقة بنوم واستيقاظ الفرد ، وليس بقراءة تشكل الفئات والطبقات الاجتماعية.فمن المعروف إن الدولة البويهية كونها أمراءٌ فرسٌ زيديون تلاعبوا بالخلفاء العباسيين وحولهم إلى دمى، وقد عاثوا بميزانية الخلافة على بذخهم ولهوهم ، وانحصرت الخلافة حول بغداد ثم بضع دويلات فارسية ، وعموماً تحول الأمراء البويهيون إلى إقطاع متحكم في الثروة.
وإذا أردنا قراءة الوضع البويهي على حقيقته فلنستمع إلى باحث ثقة في هذا المجال وهو عبدالعزيز الدوري ، فحول وضع الفلاحين نقرأ: [فمن آثار سياسة معز الدولة تجاه الأراضي أن ” فسدت المشارب ، وبطلت المصالح ، وأتت الجوائح على التناء {الفلاحون} ورقت أحوالهم] في حين أرتفع دخل أفراد الجيش البويهي المسيطر ، [والخلاصة، فإن عصر العصر البويهي كان خالياً من الخدمات الاجتماعية باستثناء الفترة بين369 ـ 372] ، [وكان الفقراء يأكلون الجراد أيضاً، وخاصة في السنين العجاف]، [وكانت معيشة البدو صعبة] ، [ورأى بعض الوزراء في المصادرة مورداً أساسياً للخزينة وتصرفوا بموجب ذلك]،(8).
هكذا غدا هؤلاء الأمراء البويهيون الغزاة إقطاع عسكري ، ينتزع الفوائض عبر الجيش ، وهو ــ أي الإقطاع ــ لا يعرف كيفية توسيع الإنتاج وتحديثه، ولكن ما هي علاقة أخوان الصفا الذين ظهروا في هذه الفترة بالبويهيين وهل كانوا من تأثيراتهم؟
إن أخوان الصفا تجمع ثقافي سري ليس له صلة بالحكام ، وهو يتشكل من شرائح الفئات الوسطى المعارضة للاستغلال الإقطاعي السياسي والديني والعسكري ، وقد أمكن لهذه الجماعة أن تكتب وتدس كتبها في غيبة من أعين السلطات ، واستفادت من صراعاتها الفوقية وغياب ملاحقاتها ، ولهذا فإن كلمة [الصحوة] تبدو بلا معنى هنا ، ففعل أخوان الصفا فعل كفاحي استمر في فترات طويلة ولا علاقة مباشرة له بنظم الحكم الراهنة، فالمستوى الفكري ليس انعكاساً مباشراً للحظة السياسية، بل له صيرورته الخاصة ، فهو إجابة على الأسئلة التي طرحها الإسلام عبر حركاته المختلفة ، خاصة حركة الاعتزال ، وحركة أخوان الصفا مرتبطة بالتقاليد الكفاحية الفكرية للمناطق العراقية الجنوبية القديمة وهي محاولة لتجاوز عقلانية الاعتزال بصورة مختلفة . أما إلى أي مدى هي بورجوازية فإن ذلك لا بد أن يقوم على دراسة دقيقة في مدى تعبيرهم عن ذلك. وعادة كانت الشرائح الوسطى والصغيرة غير ذات استقلال عن الإقطاع الديني والسياسي ، ولهذا لا نستطيع أن نتحدث عن فكر بورجوازي مستقل وبشكل واسع لديهم.
لكن الدكتور محمود إسماعيل بعد هذه الملاحظات العامة يسوق الكثير من الأفكار المتغلغلة في تحليل فكر أخوان الصفا ، بصورة دقيقة متتبعاً تجليات وعيهم في مختلف الظاهرات السياسية والعلمية والفلسفية ، بحيث جاءت هذه الملاحظات بغنى مختلف عن التعميمات التي لم ترتبط بها.
⓸ ـ خاصية هذا الجزء وموقعه:
يتناول هذا الجزء الجذور الاجتماعية البعيدة والقريبة لتشكل الفلسفة العربية ـ الإسلامية. فالجذور البعيدة تعني الأسس التي أقيمت عليها الأديان في منطقة المشرق العربي، فهذه المنطقة التي عرفت الحضارة مبكراً، كانت لها أسسها الخاصة في تكوين الوجود الاجتماعي والفكري، نظراً لقيامها على دول استبدادية شاملة بسبب عمليات الري الحكومية المبكرة ، فظهرت فيها الآلهة الشاملة المسيطرة على الوجود كليا ً، وقد تنامت هذه السيطرة من الجزئي إلى الكلي، من الطبيعي حتى الروحي، وقد تمثل ذلك في وعي المشرق وأوربا بخلاف البشرية الأخرى ، أي غدا ذلك متجذراً في الوعي الأسطوري المشرقي القديم ثم في الديانات : اليهودية، والمسيحية ، والإسلام.
ولن يكون تناولنا لهذه الجذور البعيدة إلا لوضع بعض الأسس الموضوعية لظهور عمليات التدين، حيث ستقوم الأديان السماوية بوراثتها وتجاوزها . فهنا تقع التخوم بين العصر القديم والعصر الوسيط ، وتجري عمليات التوارث والتداخل والتجاوز ، ويقوم الوعي باستعادة الموروث القديم حسب المواقع الاجتماعية والجغرافية المختلفة ، أي حسب لحظات تطور الشعوب في كل بقعة ، وعمليات الصراع الداخلية التي تجري فيها.
فيحدث التأثر والتجاوز حسب مهمات التطور لكل شعب ، فالتراث السابق يقع في لحظات الغربلة المستمرة والتجميد المقصود واللامقصود ، ومن هنا سنأخذ التاريخ العربي باعتباره يتشكل في حضن القديم ويقوم بتجاوزه ، ويقوم هذا الجزء بتحليل كيفية تشكل ذلك ، فهنا توجد الجذور الاجتماعية والفكرية الأولى ، فهي المرحلة التأسيسية القاعدية للتطور التالي ، ولا بد من رؤية قوانين تشكلها ، حيث ستقوم بإعادة إنتاج نفسها في المناطق الأخرى ، ليس بشكل مجرد ولكن من خلال سيرورتها الاجتماعية المفروضة على تلك المناطق ، ثم عبر تفاعل تلك المناطق ومقاومتها وإعادة تشكيل نفسها.
ولهذا يتصف الوعي هنا بخضوعه لعمليات الصراع السياسية والاجتماعية المباشرة ، ويؤدي تكون الإسلام في الجزيرة العربية ومحاولة مدنها للتقدم ، إلى التصاق هذه المرحلة بالعمليات المختلفة القادمة ، فتغدو المرحلة بمثابة الجذور الفكرية ـ الاجتماعية الأساسية لهذا الوعي الديني ، وتغدو تطوراته التالية مرتبطة بإنتاج هذه المرحلة وإعادة النظر فيها ، أو على العكس بتجميدها في المناطق واللحظات التاريخية الأخرى ، تبعاً لكيفية القراءات ومواقعها. وهنا يقف هذا الجزء الأول فيما سيتابع الجزء التالي ، الثاني ، المرحلة التالية والتي نعرض الآن خطوطها العريضة.
فإذا كانت المرحلة الإسلامية والأموية قد حددت جسم الظاهرة وأبرزت مضامينه الاجتماعية الأساسية المتضادة ، حيث ستغدو المرحلة التالية هي بمثابة النمو الكمي في التطور الاجتماعي ـ الاقتصادي ، فلن يكون العصر التالي : العصر العباسي الأول ، سوى امتداد واسع وتثبيت له ، ولكن دوره ينتقل إلى المستوى الفكري ، فهو يتجاوز النمو الفكري السابق ويشكل ظاهرات فكرية عميقة واسعة ، تغدو تحولاً نوعياً في مسار الوعي ، ولكن هذا المسار النوعي للوعي يستند على التطور الاجتماعي السابق وعمليات الانتشار والتعميق له.
وفي هذه المرحلة تبدو عمليات التضاد بين المرحلتين ؛ المرحلة التأسيسية برؤاها البسيطة ، ذات النسيج الديني والسحري والأسطوري والواقعي ، وبين المرحلة الراهنة حينذاك ذات البنية الثـقافية المتطورة التي تقوم بتسجيل الإرث السابق وحفظه ، أو تقنينه وعقلنته ونقده ، لكن عملية الاستعادة والتجاوز المتصارعتين ، تعتمدان على مجمل الصراعات في البنية الواسعة التركيبية ، فالطبقة المسيطرة، بفرعيها السياسي والديني في العصر العباسي الأول تقوم بحفظ التراث السابق بشكل حرفي ، كجزء من الحفاظ على النظام السياسي / الاجتماعي الذي يضمن لها الحياة الرغدة ، ويمنع القوى الاجتماعية المستَّغلة من الانفصال ، ولهذا يغدو الإسلام الرسمي في هذه المرحلة عامل وحدة للأمم الإسلامية المتكونة تدريجياً ، فيشكل العمود الفقري لعالمها القادم .
وتتراوح عمليات الحفاظ على الموروث السابق بين الشكلانية شبه الكاملة وتوجهات التجديد التي لا تشكل إعادة نظر جذرية لأسباب تتعلق بمواقف هذه القوى السياسية والدينية الحاكمة ، وهي التي غدت الآن تكرس نظاماً شمولياً يستعيد النظم الاستبدادية القديمة في المنطقة .
ومن هنا تغدو عملية الحفظ [الشكلية] لمرحلة التأسيس الإسلامية مرفوضة من قبل الشعوب المستَّغلة من تلك الطبقة الحاكمة ، وهي تحاول الدخول إلى العمليات المضمونية العميقة للنصوص الإسلامية الأولى ، ونزع قشرتها الشكلانية التي فرضتها القوى المهيمنة على الدولة والمجتمع .
لكن عمليات التأصيل الجديدة حينذاك تقوم على استعادة الموروث القديم لمنطقة المشرق ، وليس على العمليات التحليلية الموضوعية للإرث القديم بشكليه الإسلامي أو الديني القديم ، فالتناقض بين المستوى الحضاري للمرحلة الرعوية الدينية والسياسية السابقة ، و المستوى الحضاري للمرحلة الزراعية الراهنة يتمظهر بشكل صراع مذهبي إسلامي ، أو بصراع ديني بين الإسلام وبين المانوية والمسيحية واليهودية.
فالرعاة العرب الذين فرضوا تراثهم على المنطقة الشمالية الزراعية ، واصلوا استعادة تاريخهم السابق في جميع أشكاله ، وتغدو النواة الصلبة لعملية هذه الاستعادة والتثبيت جزءً من رفض سيطرة البنية الزراعية الراهنة وقتذاك بظلالها الفكرية والسياسية.
والأمر ليس تناقضاً تقنياً بل هو أيضاً صراع مصالح بين الجمهور الذي استفاد من الفتوح والجمهور الذي واصل الإنتاج والعذاب . وحين تثبتت تلك المصالح في طبقة حاكمة بفرعيها السياسي والديني ، فأخذ الوعي القديم ما قبل الإسلامي باستعادة دوره الكفاحي ، في ظل معطيات جديدة ، حيث صار الدين الجديد مقبولاً ، خاصة لتأثيرات دعوته وممارسته الكفاحية الأولى .
ولكن هناك من ورثة هذا التاريخ الرعوي / التجاري من أقترب من فعل الإسلام الحضاري ، ومضمونه الثوري الأولي ، عبر التركيز على عناصر توحيدية وعقلانية دينية ماضوية وحديثة ، ولكن هذا يعتمد على إنتاج حرفي لم يتطور بشكل صناعي وعلمي شامل.
إن اتجاهات هذه المرحلة وتراكماتها المعرفية هي التي تضع الأسس لمرحلة التطور الفلسفية التالية ، التي هي تتويج للتطور الفكري في ظل الإسلام ، والمسيحية واليهودية ، والنزعات الدهرية المختلفة ، فهنا ستصل الصراعات الاجتماعية والسياسية الكامنة في ظل المرحلتين السابقتين إ
مؤلف هذا الكتاب هو عبـــــــدالله خلــــــــيفة، الكاتب والروائي البحريني، وفي كتابه «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية»، يحاول خليفة تلمس ظاهرات الوعي العربي ـ الإسلامي بجانبيه الأساسيين: الدين والفلسفة، وبجذور هذا الوعي الأولى، التي تمتد من مرحلة الجاهلية وظهور الإسلام، ثم تشكل الدولة الإسلامية، وصولاً إلى نهاية الدولة الأموية.
ويأمل في أن يحمل عمله رؤية جديدة إلى «الوعي العربي»، الذي بدأ في الظهور بصفة وثنية، ثم انحاز إلى الطبيعة الدينية التوحيدية، وهو أمر غير معزول عن إطاره التاريخي، وعن بنيته الاجتماعية الخاصة التي يقوم بتكوينها، جدلاً مع التاريخ، وحفراً في الحاضر.
هذا الموضوع الواسع، وغير المقيد، يتطلب التركيز على بنية فكرية واجتماعية واسعة وممتدة ومتحولة، تشمل جملة الأفكار التي كانت سائدة في المجتمع العراقي الجنوبي القديم، وعلى الخطوط العرضية لتطور الوعي الديني في مصر الفرعونية، لاكتشاف طبيعة النظام الاجتماعي التي كانت سائدة وقتئذ، وتبيان دور ذلك النظام الاجتماعي في التطور التاريخي.
ذلك أن الوعي العربي، بمعناها الإجرائي، ومن ثم تطوره اللاحق: الوعي الإسلامي، وهو ينمو داخل بنيته الاجتماعية يقوم باستعادة تلك العناصر من العصور القديمة، سواء عبر علاقته المباشرة، أو من خلال التأثيرات الفكرية التي تأطرت من خلال الأديان: الوثنية، واليهودية، والمسيحية.
لكن دراسة البنية الاجتماعية، عليها أن لا تجعل الباحث مأسوراً في طابعها التقني، أي اعتبار الوعي مجرد اتجاهاته فكرية وسياسية، بل يتوجب اعتباره علاقات حية، اجتماعية واقتصادية وثقافية محددة.
وإذا كان الإسلام ظاهرة نمت بين الرعاة وفي المجتمع العربي الرعوي فلابد أن تكون جذوره مربوطة بمستويات هذا المجتمع، ولكنه عبّر ـ من حيث الإتجاه ـ عن تحول حضاري يتجاوز مجتمع الرعاة هذا، ويستهدف تخطيطه وتمدينه.
وعليه تتشكل علاقة الدرس والتحليل للعلاقة بين المدينة (مكة) كقاعدة حضارية لهؤلاء الرعاة. علماً أن بين القيادة الطليعية والجسم الاجتماعي تتكون علاقات معقدة من التداخل والتجاوز.
وفي العهد الراشدي كانت البنية السائدة تستند إلى ظهور ملكية الدول للأراضي العامة (الصوافي)، وظهور نمط جديد من الإنتاج والتوزيع، الأمر الذي أفضى إلى سلسلة من التغيرات الاجتماعية والفكرية، ومع ترسخ هذه البنية واستعادة الهياكل الاقتصادية العائدة إلى العصر القديم، تبدأ اجتماعات سياسية عميقة في هذه البنية، تفضي إلى النظام السياسي الأموي.
وعليه يتوغل خليفة في دراسة في بنية النظام الأموي وتناقضاتها وسيرورة الصراعات داخلها وسببيتها، بحيث يقوم بوضع الخطوط العريضة لتطور المجتمع العربي ـ الإسلامي في هذه المراحل الاجتماعية والسياسية المتعددة، من خلال قراءة عملية انتقاله من البداوة إلى الحضارة.
وتبيان طبيعة الصراعات وأشكالها ومضامينها، وصولاً إلى دراسة التشكيلية الاقتصادية ـ الاجتماعية التي استقر عليها. والمنطلق في ذلك هو أن تبعية الإنسان للطبيعة هنا وعدم وجود قدرات إنتاجية تحويلية لديه، كانت تقود إلى سيطرة القوى الماورائية المختلفة، تعبيراً عن الجوانب والقوى المادية في الكون والحياة التي تهيمن عليه.
غير أن إنسان العصور القديمة أوجد الرؤى والشخوص المتخصصة في التحكم في عملية الإنتاج الروحي، كشكل أولي سحري من المثالية، أي عبّر هذا الوعي الذي يعطي الخارج الميتافيزيقي القدر على السيطرة على الداخل الإنساني، سواء كان هذا الداخل تنظيما اجتماعيا أم أفكارا ومشاعر.
ويمكن القول أن المثالية أخذت صيغتها الأولى من السحر والطقوس والأديان البدائية، حيث القوى الغريبة المختلفة تسيطر على بناء الطبيعة، فتهندس الكون وتشكله من خلال المواد الطبيعية والاجتماعية المتاحة لها، سواء كانت عبر المعارك مع الحيوانات الخرافية أم مع القوى الطبيعية الملتحمة بها كالبحر والسماء والنجوم والعواصف والطوفان الخ .
لكن خليفة يعتبر أن الغيبية الدينية كانت الأم الأولى للمثالية، التي ستغدو المدرسة الفلسفية الكبرى فيما بعد، والتي ترى أسبقية الفكرة في صنع الوجود، ومرد اعتباره هذه الأفكار الغيبية نظرات وأفكار مثالية، هو إعطائها القوة الفكرية والتصورات العقلية السحرية والأسطورية، الدور الأول في صياغة العالم.
لذلك اعتمدت الفلسفات المثالية، التي ستتشكل فيما بعد، على هذه الجذور الدينية والأسطورية، حيث تتراكم المعارف ويكتشف التجريد والتعميم النظري، ويلتحم بالمنجزات العلمية المختلفة. فضلاً عن أن هذه العناصر الميتافيزيقية شديدة الغيبية تظل الأقوى في الحضور الفكري، في حين إن الفلسفة المثالية الموضوعية لا تكاد أن تخرج إلا فيما بعد، وبعد عدة قرون من ظهور الإسلام في المجتمع العربي.
والمعروف أنه في سياق التحول التاريخي للبشر، حدث تمايز بين شكلين من الوعي المثالي، الأديان ـ الأساطير والفلسفة، لكن حين تأقلمت الأخيرة في بلاد المشرق، فقد كان بانتظارها تلك الأديان والأساطير في مرحلة جديدة من تطورها، فقامت الأديان والأساطير باستيعاب الفلسفة اليونانية في عباءتها الغيبية، مثلما قامت الفلسفة بالصراع ضد الأشكال الغيبية المطلقة.
ويرى خليفة أن العلاقة بين الدين والفلسفة لا تعتمد على تضادهما الفكري، باعتبارهما مستويين مختلفين من التشكيل المعرفي، بل أيضاً على الصراع الاجتماعي أو التعاون أو الإلحاق القائم بين الإشراف والفئات الوسطى، أي أن التضاد بين الدين والفلسفة قد يصل إلى المضامين العميقة المشكلة لهما.
ولهذا فقد غلب على الفلسفات اليونانية في مرحلتها الأولى الاتصاف بالمادية حين كانت مستقلة ومعبرة عن اتجاهات الفئات الوسطى في مدن حرة، ولكن الاتجاهات المثالية نمت وتطورت وسادت فيها بعد ضمور الفئات الوسطى إلحاقها بالدولة وصعود طبقة ملاك العبيد.
إذن، يهتم خليفة بقراءة الجذور القديمة لتشكيل الوعي العربي في مرحلتيه، الوثنية والإسلامية، لكن السؤال يبقى حول إمكانية العثور على وعي غير الوعي الديني بمرحلتين وببنيتين، وعن المرحلة التي وضعت وصنعت القواعد الأساسية للوعي في كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي الإسلامي.
وبعيداً عن مثل هذه الأسئلة يبحث خليفة في الأبنية الفكرية التي تشكل على أساسها الوعي الفلسفي المكتمل في العصر العباسي. ثم ينتقل إلى بحث أبنية الفلسفة المختلفة .
وفي سياق تلمس مراحل تطور الوعي الديني في المشرق القديم يرى خليفة أن مرحلة الانتقال إلى يثرب هي التي ستجذر الدعوة الإسلامية، وتجعلها تتغلغل في البنية الصحراوية، فالقبائل العربية في يثرب، الأوس والخزرج، التي وجدت أنفسها تُأكل في حروبها الداخلية، وتحاصر بإمكانيات اليهود الاقتصادي.
وتغدو مدينتها مهمشة وضعيفة تجاه مكة المستحوذة على السيادة على الحجاز، رأت إن مناصرتها للدعوة الإسلامية سوف تجعل مدينتها في مركز الصدارة.
ومثل أي دين غدا الإسلام التأسيسي منظومة فكرية وسياسية واجتماعية شاملة، فاتحد الفكري بجهاز الدولة الوليد، وغدت العبادات والمعاملات والغيبيات في كتلة واحدة، وكلها تستهدف عبر ترابطها العقيدي أن تنقل العرب من عالم المختلف والتفكك إلى حضارة.
ثم ظهر التفكير بالقدرة، والتاريخ العربي ـ الإسلامي يشكل أولى خطواته، وقد غدا هذا التاريخ هو موضوعه، وبدأ هذا التفكير أولياً مضطربا متسائلاً عن هذا القضاء المهيمن، وعن مدى حجم الإرادة فيه، ثم راح هذا التفكير الأولي بالنمو مع اتساع حجم الصراعات السياسية والاجتماعية .
وكان تشكل علم الكلام داخل الإطار الديني جعله محكوماً بالمقولات الدينية الأساسية، وبالفهم المحدد للعصر، باعتبار الوجود مخلوقاً بشكل كلي لله، سواء في ماضيه أم مستقبله، وبهذا فإن التاريخ الإسلامي نشأ من هذه الإرادة الكلية.
ومن هنا يستنتج خليفة أن الفلسفة لم تولد مع المعتزلة، رغم أنها استفادت من حركتهم الدينية ـ السياسية الداعية للحركة والعقل، وقد كان للفلسفة أن تنشأ على انقاضهم، بعد أن عجزوا عن استثمار التراكم المعرفي في إنتاج رؤى فلسفية شاملة.
كما أن الاختلاف بينهم وبين الفلاسفة، الذين سيكونون دينيين كذلك، إذا استثنينا الدهريين الذين أزيلت أقوالهم من الذاكرة التاريخية، أن المعتزلة لم تكن لديهم فلسفة كونية شاملة، أي نظرة تشمل مختلف حيثيات الوجود، ونمت آراؤهم داخل تلافيف النص الديني، متأولين الجوانب الشديدة الغيبية أو الكثيرة الخوارق، وغير المعقولة، بشكل نسبي وعفوي.
وينصب جهد خليفة على الأمور المتعلقة بالجانب الديني التي يربطها بالبنى التحتية، وفاء لمقولات انحسر أنصارها وزمانها، حيث أن تشكل العقل الديني الإسلامي جرى فوق تطورات اجتماعية مركبة متضادة، فهناك محاولات لجعل البنية الاجتماعية في خدمة الإنسان، وبرغم إن هذه المحاولات كانت تحوي رموزاً غيبية كثيرة، حيث لا عقل ممكن في ذلك الحين بدونها.
لكن كافة الرموز الغيبية والإرث الغيبي الواقعي واللحظة التاريخية، توحي بأن التاريخ حينئذ يعبر عبر عقل واقعي متحكم في سيرورته، وليس ذلك سوى مظهر لهيمنة الأكثرية على الثروة فالمصير.
ولا يجهد خليفة نفسه في البحث والفلسفة ولا علم الكلام السابق عليها، إذ كان علم الكلام وليد المناقشات بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين ممثلي الديانات الأخرى: اليهودية والمسيحية، والتي كان معتنقوها يعيشون بأمان في دار الإسلام.
وقد ساهم التعايش وبين الفرق والمدارس الإسلامية في شحذ العقول وحثها على العلم والدرس، وفي تحرير الأذهان من أسر التقاليد الدينية الضيقة. وأدى الحوار والجدل بينهم إلى بروز دور العقل حكماً أعلى في المناقشات اللاهوتية.
وفي فهم العقائد الدينية نفسها. وفي سياق هذه المشادات ظهرت وتطورت النزعة العقلانية في علم الكلام، أول التيارات الفلسفية في الفكر الإسلامي، الذي طوره مفكرو المعتزلة، ومن ثم الأشاعرة .
كما لا يعطي خليفة أية أهمية للفلسفة المشائية، حيث يعتبر الكندي الذي لقب بـ «فيلسوف العرب» أول العرب الذين اشتغلوا بـ «علوم الأوائل» اليونانية ونشرها، وجاءت أعماله لتعكس خليطاً واسعاً من المذاهب التي تنحدر إلى أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبرقليس والفيثاغوريين.
كذلك فإن الحكمة الصوفية والتصوف بشكل عام لا يجدان متسعاً من البحث، مع أن ظهور التصوف يعود إلى فجر الإسلام، وقد تطور من سلوك الزهد والتنسك إلى القول بالمحبة والفناء والحلول، فالتأمل الفلسفي. وظهرت في المرحلة الفلسفية للتصوف مدرستان أساسيتان، هما: الإشراقية التي أسسها السهروردي، والوجودية التي أرسى أسسها ابن عربي.
كل ذلك كان غائباً في «الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية» على حساب قراءة الأوضاع الاجتماعية والصراعات السياسية، وكشف حراك «الطبقات» وتحولات الأديان، وتحققات الوعي العربي، هذا الوعي الذي بقي يحلق في سماء خالية من المفاهيم، ولم يجد أرضاً يعيد عليها أقلمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبـــــــدالله خلــــــــيفة
الكتاب: الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2005
الصفحات: 599 صفحة من القطع المتوسط
الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية

توطئة :
حول كتاب (الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية..)
لماذا هذا الكتاب؟
كان البحث في تاريخ التطور الفكري والاجتماعي العربي يراودني منذ فترةٍ مبكرة ، حيث نشأنا على خلاءٍ من البحث في الجذور الكبرى للتاريخ سواءً في المنطقة الجزيرية الخليجية أم في العالم العربي – الإسلامي عموماً ، فكانت قراءتنا المبكرة للمصادر الماركسية توجهنا للسؤال عن موقع بلداننا من هذه الكتابات ، وكانت الإشارات في المصادر هذه تجلعنا نحاول الحفر فيها علنا نلقى إجابات حول تشكل الإسلام وظهور الأمة العربية والأمم الإسلامية الأخرى لكن بدون الحصول على تلك الإجابات .
مثل كلام أنجلز في رسائله إلى كارل ماركس كان ينبه لعوامل استثنائية في ظهور الإسلام كمسألة دور الري في تشكل الإمبراطوريات في الشرق واختلاف ذلك عن التطور في الغرب .
كما لاحظنا بعد ذلك توجه بعض الباحثين العرب إلى الحفر في هذا التاريخ السياسي والاجتماعي ، وفي سنوات الدراسة والتحاقي بمعهد المعلمين والتخصص في اللغة العربية والدين ، صار من متابعاتي المستمرة قراءة الأبحاث العربية حول تاريخ الإسلام ، خاصة لدى أحمد أمين في موسوعته حول التاريخ الإسلامي وطه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى) وغيرهما .
وفي تلك الفترة قبل اعتقالي سنة 1975 كانت مجلة الطريق تنشر دراسات مجزأة للأستاذ حسين مروة ، قرأت منها دراسته حول المعتزلة ، وفي سنوات السجن عزت المصادرُ ، لكن في السنة الأخيرة 79 – 80 ، لاعتقال مجموعة حل البرلمان ، سُمح لنا بالكتب فكان كتاب جواد علي (المفصل في تاريخ الإسلام) من عشرة أجزاء ، و كتاب (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) الذي أنجزه مروة خلال تلك السنوات ، من أثمن الكتب التي وصلتنا بتوصية مخصوصة . وغيرها من الكتب التي تتناول التراث والأدب بصفة خاصة .
لكن ظلت مثل هذه القراءة غير وافية ، كما أنها لا تجثم في بؤرةِ الاهتمام بالنسبة لي ، كما أن أسئلةَ الواقع والعصر لم تطرحْ نفسها بحدةٍ علينا ، فلم يزل المعسكر (الاشتراكي) موجوداً ، وكان تصورنا حول (الماركسية – اللينينية) لم يزل مدرسياً شعارياً ، استيرادياً ، وحين حدثت التغيراتُ الكبرى فيما بعد أصبحت هذه المسائل تنتقل إلى بؤرة الوعي .
وخارج السجن الذي انتقلنا إليه كانت المصادر أكثر ، فتتابعت عمليةُ البحث في الجذور ، وقد بدأتُ ذلك بشكل قصصي ، بمحاولة كتابة رواية عن العهد الراشدي والفتوحات ، وذلك قبل عشر سنوات من الآن ، فرحتُ أستجمع أفكاري عن المرحلة الإسلامية ، لكن الرواية كانت تحتاج إلى معلومات ملموسة وليس فقط أبحاثاً عامة ، فقلتُ يجب أن أكتب تصوراتي عن ظهور الإسلام وأوضاعِ العرب وكيفيةِ نشوء الفتوح ، فرحت أكتبُ مقالات عن ذلك في جريدة أخبار الخليج ، في الملحق الثقافي وكانت أول مقالة بعنوان ( قريش تؤسس وحدة العرب ) ، وهكذا كان في كل أسبوع أنشر مقالةً تواصل الحلقة السابقة ، وراح الهدف يتغير من كتابة رواية إلى كتابة تاريخ تطور الوعي العربي دينياً وفلسفياً ، وكذلك فإن بحث الدين كان يقودُ إلى بحثِ كيفية نشوء الفرق ، وأسباب ذلك ، والفرق السياسية تقود إلى تشكل الفرق الفكرية ، فيتشعب البحث وينمو .
لكن هذه الكتابة الأولية الُمبسطة ، كانت تتعرض باستمرار للتبدل والتوجه إلى جذور الموضوعات ، حيث أن عرض الأحداث لا يكفي فلا بد من معرفة أسبابها الكامنة العميقة ، وهذا يقودُ إلى دراسة البُنى الاجتماعية ، وما يسمى ماركسياً بالتشكيلات التاريخية .
لماذا الاتجاهات ولماذا النزعات
قام كتاب المفكر التقدمي حسين مروة في كتابه (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) على البحث عن البذور المادية في الفلسفة العربية الدينية عموماً . والبحثُ عن البذور (المادية) يعني فكرياً البحث عن العناصر الموضوعية والعلمية في الوعي السائد ، والتي غالباً ما ينتجها مفكرون يعبرون عن القوى الشعبية ، فهم يكشفون داخل الفلسفة عناصر مضادة للتفكير المثالي الذي يجعل جذور الوعي موجودة في الغيب ، أو في المطلق .
لكن مثل هذه العناصر تغدو استثنائية لأن الفلسفات العربية – الإسلامية كانت فلسفات دينية عموماً ، والوعي الديني لا يسمح باتساع الفكر المادي داخله ، فهو يفسر ظهور الدين مثلاً بعوامل غير اجتماعية وغير واقعية .
لهذا فإن البحثَ في وجود الوعي المادي داخل فلسفات دينية عموماً يؤدي إلى عدم كشف الطابع المثالي السائد في هذه الفلسفات ، ومن هنا أردت استكمال مشروع حسين مروة وغيره من الباحثين التقدميين في جوانب أخرى ، هي جوانب الفكر المثالي المسيطر ، ولماذا هو مسيطر .
إن الاهتمام بالفكر المادي في العصر الإسلامي التأسيسي يوجه البحث إلى تضخيم العناصر المادية والثورية ، وهذا التضخيم ينعكس على الحركات السياسية الاجتماعية في ذلك الوقت ، وبالتالي يجري إعطائها صفات ليست فيها ، والمبالغة في اقترابها من الفكر المادي الجدلي الحديث .
فمثلاً يجري تصوير المعتزلة بأنهم قريبون من الفكر العقلاني وأن لديهم عناصر فكرية مادية كبيرة ، وأن بعض الفلاسفة كانوا مضادين للدين بشكل متوارٍ ، وهذه العملية تقود إلى تفسير أي توجه فكري مثالي لديهم بأنه قناع وأن الفيلسوف بسبب الاضطهاد والقمع يحمل فكراً مادياً متوارياً .
هذه المبالغات في رأيي هي بسبب العقلية السياسية السائدة في سنوات الستينيات والسبعينيات حيث الاعتقاد بالانتصار الوشيك للاشتراكية على الرأسمالية وأن التراث الإسلامي يحملُ الكثيرَ من الاقتراب من هذا الفكر المادي وأن الحركات السياسية في الماضي هي حركات قريبة للحركات التقدمية العربية المعاصرة .
ومع تصدع هذه الأفكار ، وظهور الواقع أكثر ارتباطاً بالدين وفي اتجاهاته المحافظة ، وابتعاد النموذج الاشتراكي ، أخذت نظرتنا للواقع وللتراث في التغير .
ومن هنا كان العنوان (الاتجاهات المثالية) أي هو البحث في السائد ، فما هي الجوانب المثالية المسيطرة في الفلسفة العربية ، ولماذا هيمنت هذه العناصر على الوعي ؟
والبحث في سيطرة (المثالية) يقود إلى بحث تشكل الأديان في المنطقة وعلى أية أرضية تشكلت هذه الأديان ، حيث قامت أنظمةُ العبودية العامة في الحضارات القديمة في الشمال الزراعي العربي خاصة وهي : الرافدية والمصرية والكنعانية وغيرها ، بخلقِ هيمنة الفكر الديني الواحد ، المتداخل مع هيمنة الدولة ، والتي يجري تغييرها عبر فكر ديني مضاد ، والذي يصبحُ منتجاً لدولة مستبدة بعد حين ، وهكذا دواليك .
أي كان لا بد من أخذِ العناصر الإنتاجية والجغرافية والتاريخية المتداخلة المركبة التي شكلت الإسلام ، وفكره في سيرورة صراعية خاصة به .
ولهذا توجهتُ للبحثِ عن الجذور السياسية والدينية عند القدماء ، ورحتُ أبحث العناصر المشتركة في مثل هذه الثقافة ، حتى ظهور الإسلام ، وما هي العناصر الخاصة التي أحدثها .
في الأديان ثمة عناصر تمثل القوى المسيطرة وعناصر تمثل القوى المعارضة ، لكنها كلها تتشكل في مناخ مثالي ، أي يعيد سببيات التطور إلى عناصر غيبية في نهاية المطاف ، وإعادة هذه العناصر للغيب ، تعني إعادتها للقوى العليا المسيطرة ، وهذا ما فعلته كذلك الفلسفات العربية الإسلامية ، حيث قامت على الدين ، ولكنها بدلاً من تفسير الكون والحياة بعناصر غيبيةٍ دينية كفكرةِ الإله فإنها تفسرُ الكونَ إضافةً لذلك بفكرة العقول الكونية التي تخلق الطبيعة ، وبشكل متدرج ، لكنها تقوم بإعطاء هذه الطبيعة المادية سببياتها بعد أن تكون نتاج صورة الإله التي تتصورها .
ولهذا فإن الحركات الفكرية الإسلامية توجهت للبحث عن عناصر معينة لفهم الواقع والطبيعة مركزةً على فكرة الإله ومنتجة صوراً كثيرة حول ذلك ، ومقيمة كل فلسفاتها على صور الإله التي تنتجها .
الجزآن الصادران:
هذه فكرةٌ مبسطة جداً حول نشأة الدين والفلسفة في الواقع العربي ، والجزآن الصادران بين أيديكم في مجلد واحد ، يبحثان الخطوط الاجتماعية والفكرية الممهدة لظهور الفكر الفلسفي ، منذ نشأة الحضارات القديمة بجوهرها السياسي – الاجتماعي ، حتى الخصوصيات في التكون العربي الإسلامي ، وظهور الإسلام والصراعات الاجتماعية التي عاشها ، كتعبير عن حركة تجار متوسطين متحالفين مع العبيد والفقراء ، مما مثل ثورة مدنية بأدوات الوعي الديني ، ولكن هذه الثورة سيطر عليها الأشرافُ وحولوها إلى دولةٍ يتحكمون في ثرواتها ، وقد ظهرت فئاتٌ وسطى مدنية حاولت أن تقوم بعمليات تحولية عبر المذاهب الفكرية والسياسية كالقدرية والمعتزلة والمرجئة والزيدية والمذاهب الفقهية السنية والإثناعشرية والإسماعيلية الخ ..
ولهذا تجدون فصول الجزء الأول تدور في : تطور الوعي الديني في المشرق القديم – قريش تؤسس وحدة العرب – الثورة المحمدية – عهد الخلفاء الراشدين – الملك والإمام – القصة في القرآن – الفرق المعارضة الكبرى الخ كما يبحث هذا الجزء آثار الفتوح وتمازج العرب بالأمم الأخرى ، وتداخل الأديان ، ثم دراسة طبيعة التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية ، وهذه قضية محورية لفهم مقولة النظام الإقطاعي وتطوراته .
فمن المهم دراسة البنية الاجتماعية بمستوياتها كما تشكلت في مناخ الجزيرة العربية البدوية ، وكذلك انتقال هذا الموروث إلى البلدان المفتوحة وقراءة التمازج الذي حدث بين الفكر الإسلامي الطالع من الجزيرة والفكر الديني القديم الراسخ في الشمال ، لأن هذا سيضع بصرنا على الأرضية الموضوعية لتشكل الوعي بمختلف تجلياته .
في حين يبحث الجزء الثاني ما بعد تشكل النظام الإقطاعي الديني ، عبر فصول مثل : الثورة العباسية ، التطور الاقتصادي للعصر العباسي الأول ، طبيعة تكون الإمبراطورية العربية ، صعود الثقافة العربية الإسلامية ، نماذج من مثقفي العصر البارزين كابن المقفع والجاحظ . ثم كيفية ظهور الفلسفة العربية الإسلامية وأول نموذج لها وهو الكندي .
إن الغرض من هذا المسح الشامل هو الوصول إلى طبيعة النظام الاجتماعي الذي أقامه المسلمون وكيفية تشكل الصراعات الاجتماعية والفكرية ، والإمكانيات الموضوعية التي يخلقها لظهور الفلسفة .
فقد حدث خلافٌ فكري كبير حول طبيعة التشكيلة التي أقامها العرب المسلمون و هل هي عبودية أم إقطاعية أم آسيوية ، وقد كانت الفصول السابقة هي تحديد وذلك ، وهذا ما جعلني اكتشف جوانبَ جديدةً حول علاقات الدين والفلسفة ، فأركز على طبيعة النظام الإقطاعي المذهبي ، المستمر حتى الوقت الراهن ، وكيف يُلحق الفئات الوسطى بسيطرته ويمنعها من تشكيل نظام رأسمالي حر .
ولأن المثقفين – المنتجين للوعي الفقهي والثقافي والفكري والفلسفي – هم نتاج هذه الفئات ، فقد كانوا نتاج التمرد على هذا النظام وعلى محاولة تغييره أو الالتحاق بسيطرته.
ومن هنا فالمعتزلة الذين كانوا متمردين على ظهور ونشأة هذا النظام في العصر الأموي حاولوا تشكيل عناصر عقلية دينية مثالية في زمن آخر ، ولكن لأن جزءً هاماً منهم التحق بسيطرة الطبقة الإقطاعية الحاكمة ، فإن العناصر التمردية والعقلية تآكلت ولم تستطع المعتزلة فتح طريق عقلاني واسع للوعي العربي الديمقراطي .
ولهذا أقوم بتقسيم تطور الوعي الاعتزالي عبر مراحل نمو البنية الاجتماعية ، ففي المرحلة مع واصل بن عطاء كان الفكر المعتزلي بشكل ثم تبدل في مرحلة أثناء النظام والجاحظ وغيرهما من قادة الاعتزال ، ثم جاءت مرحلة ثالثة مع فشل المعتزلة من الخروج من هيمنة صورة الإله المباشرة والشاملة على الطبيعة والمجتمع رغم طرحهم بعض السببيات في تفسير الظواهر، وهذا الفشل صعّد جماعةً مضادة هي الأشعرية عكست رؤى الطبقة المسيطرة في مرحلة مختلفة هي مرحلة سيطرة الإقطاع وإضعاف الفئات الوسطى بشكل كبير .
وقد الفلاسفة بمحاولة استكمال مشروع المعتزلة على صعيد أكثر تطوراً وأحفل بالتناقضات الفكرية كذلك ، فهم لم يعتمدوا على عناصر فقهية ودينية بالدرجة الأولى بل على عناصر فلسفية ، أي بالاعتماد على المقولات الأرسطية . لكن فلسفة الفارابي كمثال تقول في خاتمة المطاف إن على الوعي أن يتوجه للاتحاد بالذات الإلهية كأرقى شكل من التجلي الفكري وأن ينسحب من المجتمع المادي ( الوضيع ). وعملية الزهد ثم التصوف ثم فلسفة التصوف ستلعب كلها دوراً من الهدم للنظام دون أن تستطيع تغييره إلى الأمام ، وهذا سوف يقوي التيارات الفقهية الدينية وسيطرتها على الجمهور بدلاً من الفلسفة .
أي أن الطبقات الإقطاعية الحاكمة باستيلائها على موارد الدولة تقوم بإهدارها على بذخها ومتعها غير سامحة للفائض الاقتصادي بتشكل ثورة صناعية ، ولم يستطع المفكرون والفلاسفة اكتشاف ذلك ، وتشكيل فاعلية اجتماعية لقطع الطريق على هذا الخراب .
في حين قامت الحركات الاجتماعية والمذهبية بتكرار ممارسات الطبقة الإقطاعية في المركز في مناطق قوميات وشعوب أخرى.
الجزآن التاليان:
ويبحث الجزآن الثالث والرابع هذا النمو التاريخي حتى العصر الحديث ، فالجزءُ الثالث يتناول مسألة نمو العلوم وعلاقاتها بالإنتاج وتطورات الفرق الفكرية خاصة الاعتزال وظهور الأشعرية وتطورات الإسماعيلية والإثناء عشرية ، وأفكار الفلاسفة وهم الفارابي وابن سينا والغزالي وابن طفيل وابن رشد وابن باجة وابن تيمية وصدر الدين الشيرازي ، ثم كتابة خاتمة تدرس المبنى الديني – الفلسفي العربي الإسلامي عامة من داخل تفاصيله وهيكله .
ثم يتناول الجزء الرابع والأخير ظهور الوعي العربي الحديث بدءً من انهيار الإمبراطورية العثمانية مروراً بتشكل فكر النهضة الديني عند الأفغاني ومحمد عبده وظهور الفكر النهضوي العلماني عند فرح انطون وسلامة موسى وطه حسين وغيرهم ، وكذلك العمليات الأولى لظهور الفلسفة ، ثم ظهور الفلسفة العربية الحديثة عند يوسف كرم ، وزكي نجيب محمود وزكريا إبراهيم ونصيف نصار وغيرهم من الباحثين المعاصرين وكذلك طبيعة الفرق الفكرية – السياسية المعاصرة كالقوميين والماركسيين والدينيين لدى أبرز من يمثلونهم فكرياً .
وهذا كله يجري في قراءة البني الاجتماعية القديمة – الحديثة ، وهل استطاع وعي الشرائح الوسطى فهم طبيعة النظام الاجتماعي العام الديني السياسي أي طبيعة (النظام الإقطاعي المذهبي) ، وأسباب اخفقاتها في ذلك ، وماذا يمكن أن يحدث مستقبلاً وكيفية إدارة الصراع السياسي والاجتماعي على ضوء السابق .
فليست غاية الدراسة هي نظرية فقط ولكن المساهمة في اكتشاف الواقع العربي الراهن ، وكيفية تكوين تحالف عربي ديمقراطي في كل بلد يتوجه لتغيير الهيكل الاجتماعي التقليدي ، بالتعاون بين الفئات الوسطى والشعبية ، بين عناصر النضال الديمقراطية القديمة والجديدة ، لتفكيك الدولة المذهبية الشمولية ، وقراءة الموروث .

مؤلف: عبد الله خليفة
قسم: النقد الفلسفي
اللغة: العربية
الصفحات: 26
حجم الملف: 436.56 كيلو بايت
نوع الملف: PDF
تاريخ الإنشاء: 30 ديسمبر 2021

قراءة وتنزيل الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية pdf من موقع مكتبه إستفادة.