تنزيل وتحميل كتاِب النحو العربي وعلاقته بالمنطق pdf برابط مباشر مجاناً
وصف النحو العربي وعلاقته بالمنطق pdf
تعد قضية العلاقة بين المنطق والنحو من أدق موضوعات فلسفة اللغة وأصعبها تناولا ، ويهتم بها المناطقة والفلاسفة والنحاة منذ أقدم العصور ، بل من قبل أن يصيغ أرسطو المنطق ويضع قواعده ؛ فلقد نشأ المنطق مرتبطاً بالجدل الفكري والنحوي الذي ساد القرن الخامس وشطرا من القرن الرابع قبل الميلاد عند كل من المدرسة الأيلية وجماعة السوفسطائيين ، وليس أدل على ذلك من أن أعمال السوفسطائيين الخاصة بالنحو قد حملت في ثناياها بذورا منطقية أكيدة ، فقد أرجعوا التصور ( المعنى ) إلي اللفظ مما يسر لهم أن يجعلوا من الجدل وسيلة للانتصار على الخصم ، ومعنى هذا أن السوفسطائيين قد بحثوا في النحو فأدى بهم إلي المنطق (1).
ويقال إن أرسطو(384 -322ق.م) قد توصل إلي كثير من التصنيفات المنطقية خلال دراسته للنحو اليوناني ؛ حيث ذهب إلى أن الكلام يعبر بدقة عن أحوال الفكر ، وأن المرء في وسعه أن يستعين بالقوالب النحوية لكي يكشف عن أحوال الفكر ، فالنحو ينظر إلى الألفاظ من ناحيتين : من ناحية وجودها مفردة , فيقسمها إلي أسماء، وأفعال وحروف ، ومن ناحية ارتباطها في جملة معينة . ونفس الشئ يقال عن الفكر الذي ينقسم إلي الأفكار المفردة وهي تصورات ، والأفكار المرتبطة وهي القضايا أو التصديقات ، وعلى هذا فتقسيم أرسطو للأفكار إلي تصورات وتصديقات ,هو تقسيم مأخوذ أصلا من النحو (2).
بل إن البعض يرى أن قائمة المقولات الأرسطية قد أخذها أرسطو أيضا من النحو ، والدليل على ذلك أن مقولات أرسطو تقوم على تقسيم الكلام إلى أجزائه : فالجوهر يقابل الاسم ، والكيف يقابل الصفة ، والكم يقابل العدد، والإضافة تقابل صيغ التفصيل ، والأين والمتي يقابلان ظرفي المكان والزمان , والفعل والانفعال والوضع تقابل الأفعال المتعدية والمبنية للمجهول واللازمة على التوالي ، والملك يقابل صيغة الماضي في اليونانية Para Fait إذ يدل على الحالة التي يملكها الشخص نتيجة فعل فعله (3).
وازدادت على أيدي الرواقيين الصلة بين المنطق والنحو ؛ فقد قسموا المنطق إلى الخطابة التي هي نظرية القول المتصل ، وإلى الديالكتيك وموضوعه القول المنقسم بين السائل والمجيب ، ولا تكاد ترتبط الخطابة عندهم بالفلسفة ، أما الديالكتيك فيعرفونه بأنه فن الكلام الجيد ، ولما كان الفكر والتعبير وثيقي الارتباط ، فقد انقسم عندهم الديالكتيك إلي قسمين : قسم يدرس التعبير ، وقسم يدرس ما يعبر عنه ؛ أي اللفظ والفكر(4).
واستمرت الصلة وثيقة بين المنطق والنحو عند المفكرين اللاحقين على أرسطو والرواقيين ، حتى بعد أن اختلط منطق أرسطو بالمنطق الرواقي Stoic Logic عند مفكري ما قبل وما بعد الميلاد من أمثال شيشرون Cicero (106-43 ق. م) , و جالينوس Galen (129-200م) , و سكتوس أمبريكس Sextus Empiricus (160-210م ), وغيرهم ، وقد زادت درجة الصلة ما بين المنطق والنحو توثيقاً عند مفكري ما بعد الميلاد ، وذلك بفضل علم جديد هو القانون الروماني ، الذي احتاج واضعوه إلي التسلح بمزيد من المنطق والنحو يساعدهم في اشتقاق الألفاظ ، وتكوين المصطلحات الجديدة للتعبير بها عن الحالات القانونية والاجتماعية التي كانت تطرأ عليهم كل يوم (5).
وإذا انتقلنا إلي العالم الإسلامي , نجد أنه من الصعب أن نصف النحو العربي في مراحله الأولى ( وخاصة القرن الأول الهجري ) ، بأنه تأثر بمنطق أرسطو ؛ وذلك لكثرة ما ضاع من أعمال النحاة الأوائل ، علاوة على أن التاريخ لا يقدم شيئا ماديا مؤكدا عن اتصال النحاة الأوائل ، اتصالا مباشرا بالمنطق الأرسطي , ولذلك فالحكم بوجود علاقة بين النحو العربي ومنطق أرسطو في المراحل الأولى فيه شيء من التسرع أو الإيغال في التعميم (6).
صحيح أننا لا نعرف على وجه الدقة متى عُرفت أعمال أرسطو المنطقية طريقها إلى نحاة العرب ، إلا أن البحوث تذكر أن العرب اتصلوا بالمنطق الأرسطي من طريقين: الأول- ما قدمه النحاة السريان، والثاني- ما تمت ترجمته من هذا المنطق إلي العربية (7).
واعتقد أننا إذا رجعنا للروايات التاريخية الخاصة بنشأة النحو العربي ، ربما تنكشف لنا بعض الحقائق الخاصة بتأثر نحاة العرب الأوائل بالمنطق الأرسطي ؛ حيث إنه لمن الملاحظ أن أغلب الروايات التي ذكرت عن النحوي البصري الأول أبي الأسود الدؤلي ( ت 69هـ ) تؤكد أن قصده الأساسي من وضع النحو هو منع فساد اللغة العربية على أفواه الأميين والموالي ؛ وبخاصة حين يمس هذا الخطر النص القرآني ، وتكشف الدراسة المتأنية للمصادر على اختلاف التفاصيل فيما بينها عن ذلك الربط الدائم بين أبي الأسود الدؤلي ، واسم الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ( ت 40 هـ ) في مسألة وضع النحو(8).
ولعل أكبر دليل مهم على استحسان جهد أبي الأسود هو إجماع المصادر على حقيقة أنه كان مدفوعاً بضرورة النسخ القرآنية المختلفة وبضرورة وضع نهاية لفساد اللغة . ويتمثل فساد اللغة في عصر الدؤلي بصورة غالبة في الخلط بين الحالات الإعرابية ، وهذا يفسر لنا لماذا كان أبو الأسود مهتما أساسا بمشكلتين :-
الأولي – هي النقط وإيجاد حركة الكتابة ، وذلك مما استعاره من الكتابة السريانية ؛ حيث كان السريان يستعينون بالأحرف دون الحركات فترة طويلة من الزمان ، ثم تنصروا ونقلوا إلى لغتهم الكتب المقدسة خصوصا الأناجيل ، وأرادوا ضبط كل كلمة منها عند قراءتها في الكنائس والبيع احترازا من الخطأ ، فإن الخطأ في تلاوة هذه الكتب فاحش ، وقد يستلزم ما يوهم الكفر والزندقة في قراءتها … ولما لم يكن للسريان بـــُد من الحركات ، ولم تكن لهم سبيل إلى تغيير الأحرف المعهودة المستعملة أو إلى زيادة أحرف أخري ، اضطروا إلى اختراع علامات صغيرة لا تتأثر بها الأحرف ولا يغير شكلها ، فاقتصروا على رسم نقطة أو سطيرة صغيرة فوق الحرف أو تحته أو في وسطه ، وبقيت الأحرف كما هي، فلم يغيروا أحرفا ؛ بل زادوا نقطا أو سطيرات (9).
والثانية – هي دراسة الفاعل والمفعول والمضاف إليه ( أو الرفع والنصب والجر ) ، أي الحالات الإعرابية ، وبالنسبة لاكتشاف الحالات الإعرابية فيمكن إرجاعه إلى أبي الأسود الدؤلي . وأما بالنسبة للمصطلحات , فمن المحتمل أن تكون قد حرفت على أيدي النحاة اللاحقين الذين طبقوا مصطلحات عصرهم على مصطلحات الدؤلي(10).
وبخصوص دور الإمام علي بن أبي الطالب رضي الله عنه , فيقال إنه أمر أبا الأسود بما يلي : الكلام كله اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن المسمي ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمي ، والحرف ما أنبأ عن معني ليس باسم ولا فعل ثم قال له: اعلم أن الأشياء ثلاثة : ظاهر ، ومضمر ، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر ، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر ، ثم وضع أبو الأسود بأبي العطف والنعت , ثم بأبي التعجب والاستفهام ، وإلى أن وصل إلى باب إن وأخواتها ما خلا لكن ، فلما عرضها علي الإمام علي أمره بضم لكن إليها ، وكلما وضع بابا من أبواب النحو عرضه عليه (11).
وهذه الرواية التي أجمع المؤرخون على ذكرها ، تدل على احتمال وقوف علي بن أبي طالب , أو أبي الأسود على تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف علي المنطق الأرسطي المتداول لدى أهل العراق ، وخاصة العلماء السريان الذين كانوا على معرفة بالمنطق , والنحو , وعلوم اللغة, في ذلك العهد.
وأما بالنسبة لترجمة المنطق الأرسطي فتبدو بالنسبة لنا أكثر أهمية فيما نحن بصدده ، وهنا نجد شيئا من الاضطراب في المراحل الأولى ، فالروايات تذكر أن عبد الله بن المقفع (106-142 هـ ) قد ترجم كتب أرسطو الثلاثة ، وهي كتاب قاطيغورياس ( المقولات)، وكتاب باري أرميناس ( العبارة ) ، وكتاب أنولوطيقا أو التحليلات الأولي (12). وقد عرض المستشرق الألماني بول كراوس لهذه الرواية ونفي أن يكون عبد الله بن المقفع هو الذي ترجم هذه الكتب ، وإنما إبنه محمد ، وأثبت أن هذه الكتب ليست ترجمة لكتاب أرسطو ، وإنما هي تلخيص لبعض شروحها (13). والثابت لدي المؤرخين أن ترجمة المنطق الأرسطي تمت على يد حنين بن إسحق ( ت 264 هـ ) وتلاميذه حين نقلوا الأورجانون الأرسطي كله من اليونانية إلي السريانية , ثم إلي العربية ، أو من اليونانية إلي العربية مباشرة (14).
والذي تشير إليه هذه الروايات التاريخية لا يؤكد وجود شئ محدد من المنطق الأرسطي بين يدي الخليل بن احمد الفراهيدي ( ت 175 هـ ) , ومن سبقه أو عاصره من أوائل النحاة , إلا أن يكون ذلك الذي قدمه محمد بن المقفع أو أبوه عبد الله , أو أعمال السريان النحوية على افتراض الاطلاع على مناهجها ، ولكنها أيضا لا تنفي وجود شىء من المنطق الأرسطي بين أيديهم (15).
وفي آراء الخليل بن أحمد الذي يقول عنه البعض بأنه يعد من المتكلمين : ومن أوائل من ظهر تأثرهم بالمنطق , والكلام , والذي أصبح بذكائه النادر كاشف قناع القياس (16) ، كما أجمع مترجموه على وصفه , بأنه كان الغاية في تصحيح القياس , واستخراج مسائل النحو وتعليله (17) ، وقد ساعده على ذلك صداقته لمعاصره عبد الله بن المقفع ، ويبدو أن تلك الصداقة كانت تمثل تكاملاً بين عقلين يقول الزبيدي : وذكر عن الشيوخ البصريين أن ابن المقفع اجتمع مع الخليل بن أحمد ، فتذاكرا ليله تامة ، فلما افترقا سئل ابن المقفع عن الخليل فقال : رأيت رجلا عقله أكبر من علمه وقيل للخليل : كيف رأيت ابن المقفع ؟ فقال : رأيت رجلا علمه أكبر من عقله (18).
ومن اليسير أن نتصور أن عبد الله بن المقفع , قد تبادل فيما تبادل مع الخليل بن أحمد بعض القواعد المنطقية ، يقول الدكتور شوقي ضيف : ويظهر أن الخليل كان يتقن المنطق الذي ترجمه صديقه عبد الله بن المقفع وما يتصل به من القياس(19)، ويمكن أن نلمح ذلك فيما نقله الزجاجي عن بعض شيوخه أن الخليل بن أحمد سئل عن العلل التي يعتل بها في النحو ؟ فقيل له : عن العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك ؟ فقال : إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها ، وعرفت مواقع كلامها ، وقام في عقولها علله، وإن لم ينقل ذلك عنها واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته فيه ، فإن أكن أصبت العلة فهو الذي التمست ، وإن تكن هناك علة له ، فمثلي في ذلك ، مثل رجل حكيم دخل دارا محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام ، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق , أو بالبراهين الواضحة ، والحجج اللائحة ، فكلما وقف هذا الرجل في الدار علي شئ منها قال : إنما فعل هذا هكذا لعله كذا وكذا ولسبب كذا , وكذا ، سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك ، فجائز أن يكون الحكيم الباني فعل ذلك العلة التي ذكرها هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك ، فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هي أليق مما ذكرت بالمعلول فليأت بها (20).
ولعل ما رواه الأصمعي في تقسيم الخليل لأنواع العلوم , كما ذكر الزجاجي دليل على مدي جنوح عقله إلي تقسيم منطقي ، وهو جنوح يؤكد سمته العلمية في التصنيف ، وهو ما انعكس على قياسه ، قال الخليل بن أحمد : العلوم أربعة ، فعلم له أصل وفرع ، وعلم له أصل ولا فرع له ، وعلم له فرع ولا أصل له ، وعلم لا أصل له ولا فرع . فأما الذي له أصل وفرع فالحساب ، ليس بين أحد من المخلوقين فيه خلاف، وأما الذي له أصل ولا فرع , فالنجوم , ليس لها حقيقة يبلغ تأثيرها في العالم لغير الأحكام والقضايا علي الحقيقة ، وأما الذي له فرع ولا أصل له فالطب ، أهله منه على التجارب إلى يوم القيامة ، والعلم الذي لا أصل له ولا فرع فالجدل (21).
ولندع جانبا ما ورد على لسان الخليل بن أحمد من حديث عن العلل وأنواع العلوم ، وننتقل إلى سيبويه (148-180هـ /765-796م) , الذي ألف لنا أول موسوعة عربية تجمع المعارف اللغوية في شتي نواحيها وهو الكتاب ؛ حيث استنفد فيه جهدا عظيما تفتق عن عمل لم يسبقه إلي مثله أحد قبله , ولم يلحق به من بعده , وهو يمثل مرحلة ناضجة ومتطورة من مراحل التفكير النحوي العربي ,فهو قمة في الشمول لجوانب علم النحو , والإحاطة بأجزاء هذا الفن . وقد شبه أحد الباحثين المحدثين مكان سيبويه من نحو العربية بمكان بانيني Panini في نحو الهندية القديمة ( السنسكريتية ) ومكان دي سوسير De Saussure في النحو المعاصر , لأن كلاً من الثلاثة رائد في زمانه , فلقد سمي بانيني هوميروس النحو قياسا على إمام الشعر اليوناني هوميروس , كما وصفت كتابات سوسير بأنه نبع يرد إليه كل من كتب في النحو المعاصر ممن جاء بعده . وسيبويه يجمع هذين الوصفين , فهو رائد في ميدان لم يطرق من قبل بمثل هذا الشمول وهذه الدقة , وكتابه في النحو لا يزال موردا يرده الظمأي والحياري ممن شغفوا بالعربية وسحر نحوها وصرفها وأصواتها (22).
نقل إلينا سيبويه في هذا الكتاب معظم مصطلحات الخليل بن أحمد واستعمالات أسانيده , وأضفي عليه من ذكائه وفطنته وقدرته علي التحليل والاستنتاج , فحاول أن يجعل أبواب كتابه واضحة , سهلة المنال وحاول صناعة المصطلح النحوي ليستقر في صورته النهائية , وما لم يسعفه جهده بالظفر به لجأ إلي وصفه وتصويره بالأمثلة الكثيرة الموضحة (23).
ومن الملاحظ أن سيبويه يقتصر في أكثر حدود مصطلحات الكتاب على التعريف بالمثال , قاصدا به إيضاح المعرف ؛ حيث يكثر من الأمثلة والشواهد بدرجة لا نظير لها عند غيره من النحاة , فيقول في تعريف الاسم : فالاسم رجل وفرس وحائط (24), وهذا النمط من التعريفات هو السائد بين النحاة زمن الخليل وسيبويه.
ويكاد كتاب سيبويه يخلو من التعريف المنطقي علي وجه العموم, فهو مثلا لم يعرف الفاعل , ولم يعرف الحال , ولم يعرف البدل , ولا غير ذلك من أبواب النحو , ويكتفي في الأغلب بذكر اسم الباب , ثم يبدأ مباشرة بعرض القواعد المستخلصة من الاستعمال (25).
ولقد حاول نحاة البصرة والكوفة بعد سيبويه إعادة النظر في كتابه مادة وأسلوبا , فشرعوا يذللون صعبه بالشروح , ويخرجون شواهده ويختصرونه , ورأوا مع كثرة المدارسة أنه يمكن اختصار عنواناته الطويلة في صورة محددة يستقر عليه المصطلح الذي حام سيبويه حوله , وأوشك أن يقع عليه , ورأوا كذلك الاستقرار على واحد من مصطلحاته الكثيرة التي كان يطلقها علي المسألة الواحدة , فيكتفون بهذا المصطلح عما عداه .
وقد أخذ التجديد في المصطلح بعد سيبويه منحيين : أولهما – التسمية ، والآخر – وضع الحدود الخاصّة بها وأُلّفت في ذلك الكتب، وكان من أهمها كتاب الإمام أبو زكريا يحيى بن زياد المعروف بالفرّاء الذي ألفه في حدود النحو ، واشتمل على ستين حدّا (26).
وفي القرن الثالث الهجري , انفتح المجتمع الإسلامي أكثر على ثقافات العالم , وتوسع في نقل العلوم , ولا سيما علوم المنطق والفلسفة, وقد ساعد على ذلك الحركة الثقافية الصاخبة في العصر العباسي ، تلك الحركة التي صاحبها انتعاش حركة الترجمة , وانتشارها من اليونانية وغيرها إلى العربية، وأضحى العرب يعرفون الأورجانون الأرسطي بكافة أجزائه المشتملة على المقولات ، والعبارة ، والتحليلات الثانية ، والطوبيقا ، والسوفسطيقا ، والريطوريقا ، والشعر ، مع شروحات وتلخيصات المشائيين اليونانيين من أمثال فورفوريوس و جالينوس و الإسكندر الافروديسي (27).
وقد كان لازدهار الترجمة أثره في دعم الاتجاه العقلي وتقويته في الفكر الإسلامي ، مما أدى إلى ظهور علم الكلام على يد المعتزلة الذين احتاجوا إلى المنطق الأرسطي للتسليح به ضد خصومهم ، ولما كان هؤلاء قد استكملوا أدوات التسلح بالمنطق الأرسطي ، فقد أثر ذلك كله في النحو ؛ حيث أخذ نحاة البصرة والكوفة معاً يعتكفون علي قراءة منطق أرسطو بطريقة منقطعة النظير ؛ حيث تناولوه بالبحث والدراسة واستخدموه كمنهج للتفكير في بعض المشكلات والمسائل اللغوية والنحوية ، ولقد واكب ظهور أبو زكريا الفراء (ت : 207هـ)،على مسرح الدراسات اللغوية والنحوية تطوراً هائلا في المنهج الذي كانت تستخدمه المعتزلة , (28) ، وهو المنهج الذي اعتمد في جانب كبير منه على العقل ؛ من حيث إنهم استخدموا بعض الأقيسة والإلزامات , وعمدوا كثيراً إلى ضرب الأمثال , واستخلاص الأحكام من المعاني المتضمنة في النصوص (29).
غير أن أبا زكريا الفراء ؛ قد جعل هذا المنهج أكثر إحكاما ودقة بمحاولته الاستفادة مما ورد في أورجانون أرسطو ؛ وبخاصة التحليلات الأولى، والطوبيقا، والسوفسطيقا ، وتطبيقه على الكثير من المشكلات اللغوية والنحوية.
ويشهد كتاباه الحدود , و معاني القرآن بمقدار تأثر الفراء بالمنطق الأرسطي ؛ فقد أصبح القياس الأرسطي هو الشكل المقبول للتفكير ومعالجة المسائل المطروحة في الفكر اللغوي والنحوي ؛ كما أن جزءا من القواعد المنطقية المختلفة التي تضمنها كتاب الطوبيقا قد طبق على بعض المشكلات اللغوية والنحوية.
ولقد سار المبرد (ت 285 هـ) في الاتجاه نفسه الذي سار فيه الفراء , حينما نزع بالنحو العربي منـزعا عقليا يشغله اطراد القاعدة , وتحكيم القياس والتعليل ؛ فلقد أضحى النحو العربي عند البصريين منذ عهد المبرد متأثرا بالمنطق ، وأصبح نحاتها شيئا فشيئا أهل فلسفة وجدل ، وأصبحت أساليبهم في النهاية متسمة بقدر من الغموض والتعقيد ، وكل ذلك كان انعكاسا لتأثرهم بالمعارف العقلية التي سادت مدينتهم منذ عصر مبكر بسبب ما تم فيها من التقاء العرب بالعناصر الأخرى التي اعتنقت الإسلام وأثرت في علومه , وفي علوم اللغة العربية تأثيرا فكريا عميقا ، وقد ساعد على هذا موقع المدينة الجغرافى على تخوم فارس ، كما ساعد عليه انتشار أفكار الاعتزال الفلسفية بين نحاتها ومزجهم هذه الأفكار بالثقافة العربية , وبالنحو مزجا دعا إليه شعورهم بالحاجة إلى هذا الخليط الثقافى , لمقارعة خصومهم بالبيان الرفيع المتسلح بالمنطق والفلسفة , بعد أن أتموا في الوقت نفسه آلته , وأحكموا صناعته النحوية (30).
وقد حملهم هذا على الإفراط في التقنين والحماس فى التقعيد ، فانشغلوا بهما عن البحث في المادة اللغوية نفسها ، كما آل بهم الأمر إلى إخضاع هذه المادة لقواعدهم وقوانينهم النحوية التي وضعوها على أسس وطيدة من المنطق , ووفق أصول فلسفية محضة , وبناء على علل نظرية ، فأصبح نحوهم منذ عهد المبرد ميدانا واسعا ومعرضا فسيحا للمناهج الكلامية , والاتجاهات المنطقية , والمصطلحات الفلسفية , لما امتلأ به من الأسباب والمسببات , والمقدمات والنتائج , والعلل والمعلولات , والتقسيم والتبويب , والحد والمحدود , والشروط والقيود , والداخل والخارج , ونحو ذلك (31).
كما نجد هذا الاتجاه أكثر بروزا عند نحاة القرن الرابع الهجري، من أمثال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت 311 هـ) ، ومن بعده أبو علي الفارسي (ت:377هـ) ، وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي المعتزلي (ت:384هـ)؛ حيث استقبل هؤلاء منطق أرسطو استقبالا حسنا ؛ كما استفادوا في تفسيرهم للنصوص النحوية من الأفكار المنطقية المتعلقة بالجنس والنوع ، والعام والخاص ، والكلي والجزئي ، والمقدمات والنتائج ، واستخدموا من غير حرج الأقيسة التي عالجها أرسطو في التحليلات الأولى بعد مزجها بالمنطق الرواقي .
وتجدر الإشارة إلى أن نحاة القرن الرابع الهجري كانت لهم اهتمامات منطقية , لا تقل اعتبارا عن اهتماماتهم اللغوية والنحوية ، بل لقد خضعت البحوث النحوية على أيدي هؤلاء النحاة في هذه المرحلة للمنطق في كلياتها وجزئياتها ؛ أي في مناهجها , وأصولها , ثم أحكامها .
ويعد أبو بكر بن السراج (ت: 316 هـ) من أوائل نحاة القرن الرابع الهجري الذين أدخلوا في النحو العربي ، بعض القواعد والأسس التي تضمنها الأورجانون الأرسطي ، والتي تتعلق بالأقيسة , أو الحجج, أو المقدمات العامة التي عرضها أرسطو في كتاباته المنطقية . فقد قال عنه ياقوت الحموي : ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله (32).
وعن كتاب الأصول قال ابن خلكان : وهو من أجود الكتب المصنفة في هذا الشأن , وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه (33) , وقد قال عنه بعض الباحثين إنه رائد الاتجاه المنطقي في النحو العربي ؛ حيث كانت محاولته لتقنين أصول النحو بداية لهذا التحول الفكري في صياغة النحو العربي صياغة منطقية (34) .
ومما يروي في هذا الصدد أن أبا بكر بن السراج كان يتلقى المنطق علي يد الفيلسوف أبو نصر الفارابي (ت: 339 هـ)، كما كان الفارابي يتلقى عليه النحو ، وأنهما اتفقا علي ضرورة مزج النحو بالمنطق (35) , قال ابن أبي أصيبعة : وفي التاريخ أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج فيقرأ عليه صناعة النحو وابن السراج يقرأ عليه المنطق .. (36).
ومن جهة أخرى ، فإن الزجاجي وأبا علي الفارسي, و أبا سعيد السيرافي (ت:368هـ) , و أبا الحسن الرماني, و أبا الفتح عثمان بن جني (ت: 392هـ) , و أبا القاسم الدقاق (ت: 415هـ) , و أبا الفرج علي بن عيسي الربعي (ت:420هـ) , يمثلون أهم من دعموا مزج النحو بالمنطق ؛ الأمر الذي أدى بالنحاة اللاحقين عليهم إلى السير في الطريق الذي رسموه في مزج النحو بالمنطق، من حيث تكريس مقدماتهم لعرض مختصر للمنطق الأرسطي ليكون بمثابة الأداة , أو المنهج الذي سيسير النحوي عليه في عرضه , ومعالجته للمشكلات اللغوية والنحوية .
مؤلف: | الأستاذ الدكتور محمود محمد علي |
قسم: | علم النحو والصرف العربي |
اللغة: | العربية |
الصفحات: | 425 |
حجم الملف: | 1.77 ميجا بايت |
نوع الملف: |
قراءة وتنزيل النحو العربي وعلاقته بالمنطق pdf من موقع مكتبه إستفادة.